د. معجب الزهراني

جملة عادية أن تقول أو تكتب “إن لم تكن باريس أجمل الحواضر الأوروبية، فهي الأكثر جاذبية وفتنة”. ما هو غير عادي، ولا متوقّع، أن يصاب أحد عشّاقها المزمنين بالملل منها لفرط التشبع بها!
نعم، هذا ما أدركته ذات يوم، فاتخذت قراراً بسيطاً حازماً بالفراق.

الوقت صباح الأحد.. تناولت القهوة بسبعة أرواح، مع ما تيسّر من دقلة نور وزيتون فلسطين وزعترها. قريب العاشرة خرجت لأتمشّى حتى وقت الغداء، كالعادة، ولابد أنني عبرت حديقة النباتات الملكية، وصاحبت نهر السين الهادئ حتى مبنى المعهد، ومن هناك، نزلت إلى الممشى المصاقب للماء. ومحال ألا أكون قد صادفت بشراً يركضون بهمّة أو يتمشّون براحة كسلى، وكذلك تلك الطيور التي عادةً ما تسبق الجميع إلى هذا الفضاء الفردوسي في قلب المدينة الأنيقة.. ربما لم أر وجه سيدتنا “نوتردام” لأن أعمال الترميمات التي أعقبت الحريق المريع المعيب تستوجب الستر، وبعدها أعرف طريقي جيداً، وتعرفه أقدامي أكثر مني.

صعدت جادة “سان ميشيل” بعد عبور تيهاني لساحتها المحروسة بالمقاهي والمكتبات (ومنها حتماً مقهى الرحيل حيث أنهيت رواية “رقص”)، وبمجرد الوصول إلى ساحة السوربون لاب، تنفست هواء الذكريات الأكثر فتنة، ودخلت مقهاي العتيق، غير بعيد عن مدخل جامعتي فيما مضى! وبعد أقل من نصف ساعة، أزعم أنني مضيت فيما بين البانايتيون والسوربون الأولى باتجاه الكنيسة، لأسمع مقطوعة لموزارت أو بتهوفن، أو من بحيرة البجع لشايكوفكسي..

وعندما عرّجت على مسجد باريس المغاربي/ الأندلسي الأنيق كعادتي.. رأيت شرطيّتين على حصانيهما تقفان مزهوّتين أمام بوابته الغربية، وأنا لا أحب أن أجفل طير الحمام.. فما بالك بعسكر الجمهورية الخامسة.

اشتريت خبزاً من عند صديقنا رشيد، وزجاجة من صاحبي الإيطالي العجوز المرح، وعدت سالما للشقة.

اتجهت إلى الشرفة التي تطل من الدور الثامن على أهم وأجمل علامات باريس الملكية والجمهورية. وعوضا عن أن يطربني المشهد الفاتن؛ أحزنتني حياديّته الباردة. خرجت من اللحظة بنوع من الإصرار. لم يعد دور المتفرج ممكناً. هكذا بدأ التساؤل: لمَ كل هذه الألفة الجارحة؟! من صب جدار الأسمنت البارد فيما بيننا؟! هل يعقل؟! أيليق بمثلي أن يعبر قلب حبيبته ولا يرى شيئاً يستحق التذكر من مفاتنها المشرعة لكل العابرين؟! ولقد طالت لحظة التأمل وأسعفتني قهوتي الإيطالية حتماً. سمعت نداءً عميقاً خفوتاً يتردد خفيف الوقع. تفاقم الحزن واشتغلت شهوة الكتابة باتجاه الصوت الغامض المحدد:

مللتَ باريس؟! مهلاً أيها الرجل..
أتذكرُ الآن أن الوقت يرتحل؟!
خمسون عاماً وأنت الأفق تنشده.
خمسون عمراً وأنتَ الريحَ تنتعلُ.
تخل عن كأسك الثملى بلا ندم.
وعد إليك.. هناك الضوء والأمل!

وما كان بعدها سوى قرار بسيط كحكمة بوذية، صارم كعزيمة فلاح سَرَويّ:
العودة من مدينة الغرباء إلى قرية الغرباء!

تعليق واحد

  1. ندى القرني on

    د. معجب الزهراني، الكاتب الذي يجعل من حرف اللغة لغة تخصه. شكرًا على باريس وهذا الجمال

اترك تعليقاً