"التفكير المضياف".. إشارة إلى فداحة على وشك الحدوث

د. عبدالله العقيبي

كان لي عظيم الشرف أن أكون على مقربة من نشوء وتشكل أعمال معرض “التفكير المضياف”، المعرض الشخصي للفنان عبدالناصر غارم، والذي احتضنه MARC STRAUS Gallery بمدينة نيويورك من 7 سبتمبر، وحتى 16 أكتوبر 2022. ورغم تخصصي واهتمامي بنقد السرد، إلا أنني وجدت نفسي في مساحة قرب معقولة تمكنني من قول شيء عن أعمال المعرض، وحول الطريقة التي تعامل بها غارم مع مشروعه الفني الفريد والصادم.

في البدء أود أن أنوه إلى كونية خطاب وبيان أعمال المعرض، وطابعها الشمولي، الذي يختزل مجموعة من التكوينات المتشابكة، انطلاقاً من السياسي إلى الاجتماعي، ووصولاً إلى الفلسفي والفني، ولعل هذا هو النموذج الأمثل لصناعة حالة حوار آنية وطازجة، تنظر إلى التاريخ الإنساني المشترك وتحاول خلخلة مسلماته من خلال أسئلة الحاضر، فكيف لشعب كامل أن يتحول في أيام معدودة وبقرار سياسي صادم إلى شعب من عابري السبيل؟! ما يجعل هذا الشعب -وهو مثال مصغّر على شعوب أخرى تعاني ذات المصير- شعباً وأمة زائدة عن اللزوم. 

وهذه أولى الصدمات الفريدة في بيان المعرض الفني، فليس من المقبول ولا من الإنساني أن يتحول شخص أو فرد من المجتمع في هذه اللحظة التاريخية التي تدعي تحضر الإنسانية، إلى فرد زائد عن الحاجة، فكيف يمكن أن نستقبل فكرة أن يكون شعب بكامله، بمقدراته البشرية والفكرية التاريخية إلى شعبٍ زائد عن اللزوم؟! فأين يمكن أن يذهب هذا الشعب؟! الذي تتنكر له الجغرافيا بفعل الحروب المتتالية، غير أن يذهب إلى جغرافيا أرحب، وأي شخص يفكر بمنطق طوباوي يمكنه أن يفكر في الغرب على اعتبار ادعاءاته عن نفسه، بأنه إنساني وحقوقي، ويقدم يد العون لأي أقلية تتعرض للقمع والتهجير، لكن إذا أبعدنا المبدأ الطوباوي ونظرنا إلى الواقع، سنجد أن ما يدعيه الغرب مجرد شعار لا مجال لتصديقه، فما يدعيه الغرب لنفسه يظل محل اختبار لادعاءاته. 

إن معرض “التفكير المضياف” يضعنا بشكل مباشر أمام تلك الادعاءات، وأمام أزمة الكائن الحدودي، الكائن الذي أصبحت يومياته في مواجهة مباشرة مع المصدات والحواجز الحدودية، التي تملأ شاشات القنوات الإخبارية والمقاطع المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، فمع اختلاف التصورات والأسباب والدوافع المعلنة وغير المعلنة أيضاً، يمكننا أن نرى مستوى التشابه في أشكال الحواجز، التي تتنوع في أشكالها وموادها الأولية، إلا أنها تتشابه في شراستها، وفي تحديدها لنوعية وشكل التعامل مع هذا الإنسان، الذي يلجأ إلى الجغرافيا التي يظنها رحبة، ثم يُصعق بوجود هذه المصدات الإسمنتية، التي تحدد له الواقع وجوده الحدودي.

إن أهم ما يمكن أن يتنبه إليه الفنان الحقيقي في هذا الوجود الحدودي الضاغط، هذا المستوى المقيت من الشراسة التي باتت تشكل صورة يومية في حياة الإنسان المعاصر، والمتابع لأخبار العالم اليوم، يمكنه أن يرى في يوميات هذا الكائن الحدودي، الذي يعيش أزمة الواقع الجيوسياسي، يوميات أشبه بالقيامة، بل هي قيامات متتالية، فحياة إنسان الحدود تمثل المعنى الحقيقي للقيامة الدنيوية، ليس في تصورها الديني فقط، بل في شكلها الوحشي لدى البشر تجاه إخوتهم في الجنس، في واقع يمكن النظر إليه من خلال التفكير في مقولة توماس هوبز الشهيرة “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”، أضف إلى ذلك المعنى الذئبي -إن صحت العبارة-، قضية التضليل من خلال ادعاء قيمة الضيافة.

وقد تنبه غارم إلى صلابة هذا الملمح الجداري، وغير الإنساني، وعبر عنه لونياً بلون الكونكريت، اللون الذي غلب على أعمال معرضه، فمرر من خلال هذا الانتباه إدراكه الفلسفي والفني، وملأه بعبارات صادمة للضمير البشري، تعبر عن حالة البشاعة التي تكتسي ثياب التحضر، ورغم أن خطابها المضمر بربري وإقصائي إلى أبعد الحدود، ولا يعبر بأي شكل من الأشكال عن التفكير المضياف، إلا أن الفنان يقدمه من خلال ادعاءات هذه المجتمعات عن نفسها، كنوع من المفارقة، فكيف لأمم تدعي أنها أمم مضيافة أن ينشأ داخلها مثل هذه الخطابات الشعبية البشعة؟! والتي تحمل مضامين إقصائية، على هيئة الشعار الشهير في أوروبا اليوم “عودوا إلى دياركم”.

كل ذلك عبرت عنه أعمال معرض الفنان عبدالناصر غارم، والتي وقفت أمامها باندهاش شديد، فهي أعمال معاصرة تتألف من عدد من المصدات الإسمنتية مختلفة الأشكال والأحجام، مثل مصدات الطرق التي تعترضنا كل يوم في الشوارع، والتي تبدي ومن مظهرها الأولي مستوى الشراسة وانغلاق الأفق، وكأنها كف إسمنتية مفتوحة أمام وجوه العابرين، تقول لهم توقفوا فورًا، هناك طريق إلى الأمام، وإلى النجاة الإنسانية، لكنه ممنوع عليكم، حتى إذا لم يكن لديكم طريق للعودة إلى الوراء، فهذه المصدات المصنوعة من أجل عدم عبوركم هي نهاية الطريق، وهذا المصد المتعمد هو بداية وجودكم ككائنات حدودية. 

استثمر غارم هذا التكوين الموجود في الواقع والذي تستخدمه السلطات في شتى الدول كمكون تنظيمي، يوحي بمنع التجاوز والعبور، والفنان هنا لا يكتفي بحمل هذه الكتل الإسمنتية ويضعها كما هي في معرضه، كما يفعل كثير من الفنانين المعاصرين، بل يفعل أكثر من ذلك، جاعلاً من هذه الكتل منطقة ومساحة مناسبة لوضع عبارات صادمة تعبر عن مفهوم الصد المستمر الذي تمارسه السلطات المتحضرة. 

وهو إذ يفعل ذلك، لا يكتفي بكتابة العبارات بصورتها السليمة، بل يضعها بشكل مقلوب ومتكرر، ما يستدعي ضرورة حضور نظرية المرآة، وكأنه بذلك الفعل يريد من المتلقي أن يفترض حضور المفهوم التناظري، فالعبارات والجمل لا يمكن قراءتها بسهولة دون وضعها أمام المرآة، وربما كان هذا الوجود البصري هو المعادل الموضوعي لما يعتمل داخل الذهن، من صور مقلوبة تعبر عن واقع مقلوب بطبعة، ومن هنا تكونت قيمة وأهمية المفارقة التي يختزلها عنوان المعرض “التفكير المضياف”، في إشارة ذكية ولامعة إلى قلب المفاهيم والبُنى والسرديات المستقرة في الأذهان عن ادعاء قيم الضيافة، لهذا عبر في عنوان المعرض بلفظة التفكير، بمعنى كونه مجرد فكرة لا وجود ولا حقيقة لها على أرض الواقع.

لقد كان لي حظ التعرف على عالم عبدالناصر غارم الفني منذ تجاربه الأولى، التي كانت وما تزال تتعاطى مع الفن التشكيلي في صورته المفاهيمية المعاصرة، من منطلق أن الفن طريقة خلاص، لهذا لا نجد أعماله في جملتها تذهب إلى المناطق الرخوة، التي تقبل الفكرة ونقيضتها، بل تنشأ وتتكون في المساحات المفصلية، التي تستدعي دائماً وأبداً حضور السؤال الإنساني، فمنذ عمله المسوم بـ”الصراط” والآخر الذي أطلق عليه “منزوع” وحتى معرضه الشخصي الآني “التفكير المضياف”، نجده لا يراوح هذه المناطق المفصلية للوجود الإنساني، التي تضع المتلقي دائماً في منطقة الأسئلة المضجرة والمقلقة، والتي تحرك داخله أهمية وقيمة وجوده الفردي، لهذا نجد أعماله في حالة تقاطع مستمر مع الديني والسياسي والاجتماعي.

ومن هنا كان الفن المعاصر بآلياته المتجاوزة وقدرته التعبيرية الفذة، هو المكان المناسب لغارم، الذي أعتقد أنه يرى النقص الذي أصبح يعتري الصورة، وبالمقابل يستبدلها بالتكوينات الإشارية، التي تومئ إلى فداحة ما لم يحدث بعد، أو ما هو على وشك الحدوث، ليس من خلال التكهن أو التخريص، بل من خلال النظرة الفلسفية العميقة، التي تبدأ من خلال الصورة اليومية ومتكررة، التي تفترض السؤال الفني الجوهري والمفصلي، الذي يحول الفعل الفني إلى فعل التزام مواقفي، يبدأ من الواقع لينتهي إلى التعبير الفني.

اترك تعليقاً