أثير السادة
في تعريف المدن الشهيرة، يجري عادة إطلاق أوصاف وألقاب تتصل بامتيازات قائمة للمكان، أو اعتبارات تاريخية أو جغرافية أو حتى مناخية كان لها التأثير في صياغة الصورة الذهنية عن المكان وناسه، فلندن مدينة الضباب، وباريس عاصمة النور، ودبي مدينة الأحلام، وفينسييا مدينة العشاق، وكلها أوصاف وكنايات تتقصد البحث عن عنوان جاذب للمكان من جهة، وراصد لشيء راسخ في ذاكرة الناس عنه من جهة أخرى، وقبل هذا وذاك تجهد في رسم هوية للمكان، هوية تغرف من الواقع بقدر ما تغرف من التاريخ، وتنهل من أمنيات الناس بقدر ما تنهل من الحقائق على الأرض.
هجرة الصورة إلى الريف
وفي مثال الأحساء، يغلب وصف “الواحة” كتعريف شائع للمكان، فيقال واحة الأحساء، أو واحة النخيل، في إشارة إلى الصورة الأكثر رسوخاً عن التفاصيل الطبيعية للمكان، تغيرت ملامح المكان اليوم وتضاءلت مساحة النخيل، وتوارت معظم معالم الواحة، إلا أن الأحساء بقيت تدافع عن وصفها القديم، وتستثمر فيه، وتقدمه على باقي عنوان الحياة فيها، وتبتكر طرقاً لإعادة إحيائه، كالمهرجانات الموسمية، والمبادرات السياحية، والتسابق للتسجيل في موسوعة جينيس كأكبر واحة نخيل في العالم، وكذلك الإدراج ضمن قائمة التراث العالمي باليونسكو.
ستصبح الواحة كذلك بمثابة المعجم اللغوي للشعراء فيها، حيث الماء والنخيل والطين منصات لاستعارة المجازات والصور، للنظم وصناعة الجمال، ولو فتشنا في دواوين أبرز شعراء الأحساء اليوم، وهو جاسم الصحيح، فسنجد حضورا كثيفا لهذه الواحة وتجلياتها، يصل إلى حد يرفعها إلى مستوى الدليل إلى بيئة الأحساء، والمرجع لأثرها النفسي والاجتماعي في أحوال ساكنيها، فالنخل بالنسبة له “هوية” كما يقول، يستعير منها تعريف نفسه حين يختار “فلاح القوافي” وصفاً له، ويقترح فصيلة الفلاحة وصفاً لفصيلة دمه.
نشاط الأحساء الكثيف
هذه الغلبة للنخيل/ الواحة في وصف الأحساء يكفي لحملنا على افتراض البيئة الزراعية موضوعاً جاذباً للمصورين الأحسائيين، وأن يكون لها حظاً وافراً في اشتغالهم الفني، يتأملونها ويرسمونها بعدساتهم التي أرهفت السمع والبصر في وقت مبكر لجماليات تصوير الطبيعة وحياة الناس..كثيرة هي الأسماء والتجارب التي عرفتها الأحساء خلال العقدين الماضيين من الزمن، بمثل ما عرفتها المسابقات العربية والدولية، في دلالة على نشاطها الكثيف، وطموحاتها الواسعة، غير أن بداياتها لم يكن بها الكثير من الصور التي تحكي عن جماليات البيئة المحلية، أي أن الكثير من التجارب لم تكن من وحي المكان، ولا مدفوعة برغبة الحب والغزل في تفاصيله، فيما عدا الحرف واليوميات التي تواشجت مع العدسات في وقت مبكر.
لا نعلم سبباً وحيداً لتفسير ذلك، فربما كان مزاج المسابقات الدولية هو الأكثر تأثيرا على طبيعة الصور التي تعتني بها عدسات المصورين في الأحساء في بواكير صعودها، أي أن الغلبة للموضوعات التي تتآلف مع فرص النجاح والجوائز في تلك المسابقات، حيث النصيب الأكبر للحياة كما يعرفها قاموس المحكمين المتأثرين بمزاج استشراقي، بمعنى الصور المتماهية مع معايير الجمال الغربي في تعريفه للطبيعة، ولتلك الدهشة التي تجلبها الصور غير المألوفة في فضاءات الغرب، كالبيئات الفقيرة التي مازلت تمثل للمصورين في الخليج عموماً عنواناً للسياحة الفوتوغرافية، بتكوياتها العمرانية البدائية، وحرفها التقليدية، و وجوه ناسها المثخنة بأوجاع الأرض.
أولى الطرقات على باب الطبيعة
المصور عبدالعزيز البقشي هو واحد من القلائل الذين اختاروا التغزل بالمكان في وقت باكر في الأحساء، وحاول الجمع بين رصد وجوه الناس إلى جانب رصد البيئة الطبيعية وهذه الأخيرة كانت بمثابة مزيج من تلاوين الحماسة والغزل للطبيعة التي جرب البحث في جمالياتها بصرياً، فأرهف الحس والسمع لتكوينات هذه الأرض، وصقل ذاكرتها ورسم شيئاً من أطلالها، مدشناً لصور أيقونية لهذه البيئة الريفية.
غرف كباقي رفاقه من معين الحياة اليومية، وانشغل بصور الناس، إلا أن وصفه للمناظر الطبيعية بشكل متكرر يوحي بتعالقه العاطفي مع المكان، إلى الحد الذي أصبحت فيه الأحساء تعرف من خلال صوره وذلك بالتزامن مع صعود المشاريع والمبادرات المحلية لإعادة ترميم صورة المكان، وتقديم الأحساء كواحة وليس مجرد أطلال واحة.
وصف مليئ بالحياة
كانت صوره بمثابة المديح لهذا الفضاء الأخضر، أبياتاً متناثرة تطرق باب النخيل والماء والجبل، فأتى الطبيعة من أكثر أبوابها بلاغة، وهو يهب الناظرين وصفاً مشرقاً للمكان، وصفاً مليئاً بالحياة، وبجماليات الصورة..سنتذكر صورته للنخيل الباسقات وجريان الماء من حولها، لحظة مشبعة بامتيازات الريف وسماته التي يعتني بوصفها على مستوى التكوين واللون والمنظور، ومثلها صورته البانورامية لقرية القارة وهي مسورة بالنخيل وشاهق الجبال، صورة تهب المكان قوة وجمالاً، وتمتدح بديع الطبيعة الذي يضفي عليها معاني الجمال.
هذا الهيام بالطبيعة المحلية دفعه لتكرار التغني بالمكان وتقديمه ضمن أشكال المديح والغزل، واختار أن يجعلها طريقه لنيل الجوائز في المسابقات المحلية والدولية، غير أنه لم يسافر بعيداً في موضوعات الطبيعة، ولم تتجاوز وقفته الفوتوغرافية على أطراف الطبيعة في الاحساء إلى حدود الكشف عن تفاصيلها ويومياتها والتي ستمثل الوجهة الجديدة للمصورين في السنوات الأخيرة.
لوحة الماء.. والمزيج اللّوني
المصور أحمد الوصيبعي هو الآخر أبان عن افتتان مبكر بلوحة الماء وجريانه ضمن قنوات الصرف الزراعي، وفي أطلال العيون التي أعيد إحياؤها، مكررا ًالوقوف أمامها فيما يشبه التنويع في تذوق هذا المكان، كانت– أي الصور- في بعض حالاتها توحي برغبة التجريب والاختبار لأدواته الفوتوغرافية ليس إلا، بيد أنه كشف عن إحساس لافت بهذا المزيج اللوني الذي قدمه ضمن صورة في عام 2009م، كانت تصف حواراً بين زرقة السماء وخضرة النخيل وتدفق الماء، فيما عكست صوره اللاحقة اهتمامه المتماوج بالبيئة الطبيعية من حوله، وانهمامه بشكل عام بالموضوعات ذات الصلة باللاندسكيب.
بالمجمل مثلت صور المصور البقشي بنحو استثنائي رافعة جمالية وسياحية للمكان، وتزامن معها ولادة المبادرات الأولى للمهرجانات الموسمية التي تعنى بتسويق المكان وترويج السياحة فيه، كمهرجان “حسانا فلة” بطابعه الترفيهي والتراثي، والذي تبعه مهرجان ريف الأحساء السياحي، بعنوانه الصريح الذي يشير إلى رغبة الإحتفاء بالوجه الزراعي للمكان والاستثمار فيه كمادة سياحية.
صعود الريف
ساهمت هذه المهرجانات بنحو عام في التحشيد العاطفي تجاه مساحات النخيل، وحرضت المصورين على الانفتاح أكثر فأكثر على نصوص الطبيعة، وكتابة حكايات بصرية متنوعة عن الواحة، فكان صريحاً وواضحاً افتتانهم بالمساحة الخضراء، بالتضاريس الجبلية، كانت صورهم يجري صقلها لتظهر بذاخة اللون الأخضر في فستان المكان، يعضدها الماء الجاري الذي يذكرنا بالحياة التي تتدفق في روحه، مع تأنق وعناية في وصف الإنسان فيه وهو ينغمس في علاقته الأثيرة مع الأرض.
نجح مصورو الريف -إن جاز القول- في القبض على معاني المكان، في تحويل الطبيعة من حولهم إلى نصوص بها فائض حياة، يذهب المصور ليلتقط صورة من صور البساتين وكأنه يكتب نصاً من نصوص الحماسة، حماسة تجدها في البذخ اللوني، وفي العدسة الواسعة، وفي خصوبة الأرض، وفي مواسم الحصاد.. بدا مصورو الريف ممتلئين بيوميات الفلاحة، ولأنهم لا يريدون للبيئة الطبيعية أن تكون جامدة، نجدهم يصرون على الكشف عن هوية الإنسان في المكان من خلال استحضاره الدائم ضمن حدود الصورة التي عرفتها السنوات الأخيرة.
الصورة كقصيدة ريفية
حسين السلمان واحد من المصورين الذين انشغلوا عبر تجربته الفوتوغرافية المعروضة في حساباته الشبكية في التعريف بهوية المكان، حيث اعتاد أن ينقل لنا مناظر من صباحات النخيل ومساءاتها، ومن شروق الشمس على تضاريس الجبال وغروبها، يجمع ذاكرة الأرض والناس معاً، وهو يرصد الحرف التقليدية فيها، له مع المواسم مواعيد غرامية، الصرام، الطبينة، حصاد الرز، أمضى أيامه الأولى يراقب يوميات الناس، مع ميل لتصوير الطفولة، قبل أن تشده العلاقة مع الطبيعة من حوله، وتجعله يدور حولها بعدسته، وبالإمكان أن نضع مرساة لهذه البداية مع عام ٢٠١٦، وهو يتأبط صور الماء والنخيل والجبل، وهي الفترة التي ستشهد اصطفافاً واسعاً لمصوري الأحساء حول ثيمة البيئة الزراعية، كـ ناصر الناصر الذي وإن قدم صورة أولى لممر في أحضان النخيل كما وصفها في عام 2015، إلا أنه عاد في عام 2016 ليقترب من المكان أكثر من خلال توثيق الحرف والباعة وكذلك زراعة الرز الحساوي، وشعيب سعيد والذي اعتاد تقديم تجربته الفوتوغرافية بغطاء انساني تحت وسم “إنسانيات شعيب” انضم كذلك لهذا التيار عبر رصد أحوال المزارع بين حين وآخر، محافظاً على الطابع الريفي لتجربته، وكل ذلك يوحي بوجود سباق فوتوغرافي بات أشد وضوحاً خلال هذه الفترة، يتنافس فيه المصورون حول من هو أحسنهم وصفاً للنخيل، والضباب، والماء، وأكثرهم إجادة للوقوف على الأطلال.
بالمثل تظهر تجربة يحي المعيبد، الذي استدار بداية بعدسته ناحية الناس، ليصور لنا الحياة اليومية، معتمداً السهل البسيط من الصور وهو يراقب الأطفال، كبار السن، الباعة في السوق، و وجوه الفلاحة، كان المكان بالنسبة له هو بمثابة قصيدة عن حياة القرية، يحاول أن يصف بدقة ملامحهم، أفعالهم، مشاعرهم، يتغزل ما يفيض من تعابيرهم في لحظات عابرة.
فلّاح يعشق الأرض
وكالآخرين، ستتلون صور المعيبد بألوان الطبيعة، وتقترب من مديح الريف، من خلال الدخول إلى عالم الفلاحين، وذلك في عام ٢٠١٦، سيحاول إثارتنا عاطفياً وهو يذيل واحدة منها بالقول “الفلاح الذي لا يعشق سوى الأرض”، فارداً المساحة لهذا الممدوح، يتهجى أفعاله، وأحواله، دون أن يعني ذلك الانقطاع عن حياة الشارع، بل هو في الأصل توسيع لعمله هناك، فهذه البيئة هي امتداد لتلك البيئة الاجتماعية التي ينشغل في توثيقها، أي أننا أمام قصيدة اجتماعية في محتواها وأغراضها، وقريبة من روح الريف في نبرتها واختياراتها، والتي تتضح أكثر فأكثر كلما اقتربنا من مطلع العام ٢٠٢٠ ومابعده، حيث الأفق مفتوح على قصائد بصرية تجتمع فيها الماء والخضرة والجبل ووجوه القرية التي مازالت تبدو لمصورها فاتنة في كل تفاصيلها.
في الجانب الآخر، مثلت تجربة عبدالله الشيخ انعطافة جمالية على مستوى مقاربة البيئة الأحسائية، وهو الذي أطل عليها في تجارب مبكرة في عام 2013، دون أن توحي يومها بانشغال الشيخ بهذا الموضوع، ربما كانت ظروف العمل والإقامة خارجها قد أبعدته عن ذلك، إلا أن عام 2015 كان بمثابة الالتفاتة الصريحة للمكان والاندفاع ناحية توثيقه، قدم يومها صوراً أيقونية للعيون، والجبال، والمواقع التاريخية، ومع دخوله عالم التصوير بالدرون في 2017، شاهدنا رغبته في توسيع دائرة النظر في جماليات الطبيعة هناك، بدأنا نشاهد مساحات خضراء ممتدة تستحضر النخيل في حضورها الهندسي المنظم، والمأخوذ بنزعة سيمترية شديد الاعتناء بالتناسق والتناظر لمفردات الصورة.
امتاز الشيخ عن سواه بالتأنق الدائم للصورة عبر التكوينات الصريحة في دلالاتها، والإحساس المختلف بتفاصيل المكان من أعلى والظفر بمشهدية بليغة تحكي عن المعاني المراد إيصالها، إلى الحد الذي يمكن القول بأنه من أشعر المصورين في الأحساء، حيث التجارب الماثلة تمضي إلى إحالة الطبيعة في الأحساء إلى قصائد بصرية .
الانفتاح على الدلالات الشعرية
هكذا جرى ترميم هوية الأحساء عبر مختبرات الصورة الفوتوغرافية، بإعادة إنتاج دلالات الواحة وتكثيفها، ومحاكاة أفعال الشعر لا في مجازية المضمون بل في انفتاحها على دلالات شعرية كالفخر والغزل والحماسة عبر تكوينات وزخات لونية وتأطيرات مكتملة في إيقاعها الشعري إذا ما أردنا بذلك التنويع في مقاربة المكان بصرياً، والاتكاء على حمولته العاطفية.
لم نشاهد الكثير من صور البيئة الحضرية في المشهد الفوتوغرافي الأحسائي، لم نطالع المكان باعتباره نصاً انسانياً في الجانب الآخر من الجغرافيا والامتداد العمراني، فالفضاء المدني لا يبدو جاذباً على مستوى الفوتوغرافي أو هكذا يبدو من خلال الشح في ضغطات الكاميرا في ذلك الاتجاه، إلا ما جادته به المناسبات الاجتماعية، وأشكال الاحتفاء بالبورترية، وكأنما الصورة في الأحساء منساقة وراء مرادات الترويج السياحي، والتشديد على المظهر التاريخي، وبالتالي يجري تغطية الأحساء بغطاء ريفي صرف من خلال عدسات منغمسة بالريف ويومياته، ليصبح المكان في وجهه الحضري مشروعاً بلا شكل ولا أسماء ولا خبرة فوتوغرافية تستطيع أن تعيد تقديمه كحالة فنية أو ثقافية.