د. جمال حسين علي

– ماذا سيفعلون مع اليأس؟

هذا السؤال كتبه جان بول سارتر في مسرحية “الذباب” وأجاب عليه بنفسه:

– أي شيء، إنهم أحرار، حياة الإنسان الحقيقية تبدأ على الجانب الآخر من اليأس.

ربما اليأس أحد الحلول “المريحة” والسهلة من ناحية تخفيف التوتّر والقلق والضغوط ، على قاعدة البير كامو: “” من دون اليأس – لا نستطيع أن نحب الحياة”، لكن الأمر ليس على هذا النحو تمامًا، فقد تترتبّ عليه أعراض جانبية كالخمول وانعدام المبادرة وهذه وحدها كافية لأن تشعر بالضِيق من العالم وحتى من نفسك. 

واعتقد أن أحكم الحكماء وأعلم العلماء هو: الهدوء وقت الشِدّة. الهدوء وليس اليأس.

فلاسفة وأدباء كثيرون امتدحوا اليأس ، كمخدر ونوع من التكيف، لكن اليائس لا يشعر بالأمان أو يستطيع لملمة كيانه، لا سيما أولئك المدمنون على اليأس، وبعضهم حالات ميئوس منها. وأيّ شخص عُرضة لنوبات من اليأس.  ولكنه برأي ستيفان تسفاييغ يولّد قوة عظيمة ، وهو ما رأينها في نهايته الدرامية حينما ابتلع السمّ مع زوجته بعد اقتناعهما أن هذا العالم لم يعد المكان الأفضل للعيش فيه. 

وقد يكون السبب الحبّ أو نقيضه، كما كتبت إليزابيث جيلبرت – “أصل كل شيء” أن سبب كل الخيانات العاطفية، اليأس والحاجة”ـ بينما جيم رو يرى أن “نغير أنفسنا لأحد من السببين – الإلهام أو اليأس”، والأسوأ ما في اليأس التعوّد عليه.

وبالرغم من كلّ معاناته وتعرّضه للمضايقات واعتقاله وسحبه من الجامعة التي يترأسها أمام أنظار طلبته، إلا أن ميغيل دي أونومانو ينصح بأن “لا تيأس أبدًا، حتى وأنت في أحلك البلايا، فإن الماء النظيف الخصب يتساقط من السحب السوداء”.

بينما نرى إميل سيوران يرى بأن إذا كان لديك ألف سبب لليأس، يجب أن تستمر. فيما تعتقد آنا أخماتوفا أن السلام سيحلّ بعد اليأس “على أمل، التمتُّع بالجنون”.

الأصفار الذهبية

نحن جميعًا نحارب الوحدة. هناك من يتجنبها بحثًا عن أمان أسرة، وآخرون يحيطون أنفسهم بالناس.. أعلم أنه في المساء سيأتي إلى أولئك الذين تحبهم والذين تهتم بهم والذين لم يزعجوك. سوف يلعب الأبناء أمامك لكي يمنحوك جرعة صغيرة من الفرح ولو لبعض الوقت.. سوف يغنون لك، سترى الضوء في الغرفة.. سوف تغفو ، وتلبس غطاء الرأس الذي اعتدت عليه في الشتاء وبرده القارس .. سوف تغفو بابتسامة على شفتيك.. سوف يقويك النوم، وسوف تبدأ في التفكير بحكمة. وستحلم أن تُحاط أيها الإنسان المعاصر بالأشخاص الذين يرضونك والذين سمحوا لك بالعيش بالرغم مما لديك من أفكار ما عنهم.

العديد من النجوم البعيدة تلعب دورها في كوننا ولا نشعر بها، والكثير من الناس البعيدين، يلعبون دورهم في عالمنا الخاص ولا نعلم بهم. سيأتي حتمًا “يوم العرفان” الذي تتغيّر فيه حركة ومواقع هذه “الأصفار الذهبية” في حياتنا! لأنهم يهتمون بك.. يقلقون عليك.. إنهم لطفاء بشكل لا يصدق بل يجعلونك تتساءل: كيف للحياة أن تمضي من دونهم؟!

أكياس الرياح

وفي حياتنا اليومية، ينتمي العالم إلى الحمقى وغير المبالين. ويتم الحصول على الحق في الحياة والانتصار بنفس المتطلبات التي يحصل بها المرء على العلاج في مستشفى للأمراض العقلية أو في نزل بائس كالذي يذبل فيه العجائز المعاصرون الذين بنوا العالم بعد الحرب العالمية الثانية. 

ها هو المجتمع يتحلل بسرعة. لقد حلت الإنترنت محل كل المعارف التي كانت موجودة في الرأس. توقف الناس عن القراءة، وتطوير التفكير، والمنطق، والخيال. فقط الاستهلاك المبتذل لكل شيء وكل شخص. كلهم يكرهون الأكاذيب بشدة ، بينما هم أنفسهم يغرقون في الأكاذيب. لماذا كل هذا النفاق وازدواجية المعايير؟ لماذا يوجد الكثير من أكياس الرياح الذين لا يعرفون كلمة “مسؤولية”؟

داخلصندوق الحكايا

نلوذ إلى الوحدة، حينما لا نعثر في العالم على شخص واحد يحكي لنا قصة جديدة

فنبدأ بتشغيل “صندوق الحكايا” المخزون في صدرنا.

في عام 1919 ماتت من الجوع ابنة شاعر روسيا الكسندر بوشكين، توفيت في عزلة تامة، في غرفة صغيرة بموسكو عن عمر 86 عامًا. لم تُمنح معاشًا تقاعديًا، لكن ذهب معاشها الأول إلى جنازتها. ولدت ماريا ألكساندروفنا هي الابنة الكبرى لأكبر شعراء روسيا في 19 مايو 1832 في سان بطرسبرغ ومات والدها وعمرها 5 سنوات. ومنذ ذلك التاريخ الذي قمت بترجمة قصتها، لم أستطع نسيانها، وما الذي تفعله الوحدة بالمسنين .. ولماذا يكونون مديونين على الدوام.. فقد كانوا يطلبون منهم ويطلبون.. ويمتصونهم ويلقون بهم إلى الوحدة الطويلة.

الوحدة والإبداع

لم أتيقن بعد، إن كانت العزلة، تمنح الهدوء. في الخارج، كان العالم يفقد رشده، لذلك سيكون ممتنا لعزلته المتيّم بكتبه، وصائغ الأحلام. 

لا تخرج إلى هناك أيها المبدع، لا تكرر الخطأ المريع للمتعطشين للأضواء والانبهار بالزعيق، فمهمتك، أن تبدع فقط. مهما فعلت، سيتخلون عنك، بل ويتلاشون كالدخان، ما داموا من دونك أوضاعهم أحسن. وإذا كنت تعتقد أن خروجك من العزلة، سيجعلك أفضل، فأطمئنك، أن ذلك، سيجعلك مثلهم فحسب.  

عندما يختفي الذي تحبه، ستندمج في العزلة غير مبال بالحياة، ستبحث عنه في السماء وفي الضباب وستلتقي في النهاية مع روحه المقموعة. لايمكن أن تضيع طالما هناك قمر.

هناك أناس يعانون من مرض نادر وقد يفقدون الوعي إذا سمعوا أو رأوا أيّ تصرف خاطئ. ومثل كل الأذكياء لا يلجأوون للعزلة لشغفهم بالانعزال، بل، لأنهم عادة ما يتجنبون متاعب الأغبياء. لم تكن لديك مواعيد ولم تفهم هذه الكلمة، كيف يمكن أن تتواعد مع أحد، اثنان فقط كنت تحرك أقدامك من أجلهما: عائلتك والكتاب. مارك توين الذي حتى قطه الأسود مشهور، أكثر الكتّاب اختلاطا ومرحا. ومحاط بالناس دوما، قال: لقد غرقت في العزلة، لدرجة أني لا أستطيع السباحة.

عزلة أرسطو 

لقد كان أرسطو يرى أن الذي يجد “متعة في العزلة”، إما حيوان متوحش، وإما ملاك وفي هذه الحالة، لست أنت من لا يفهم ما يقوله البعض، فحتى رؤوسهم لا تدري عمّ يتحدثون. وما إن تغلق سَمْعك عن اللغو وتخرس الأقاويل وتزهق الأباطيل وتنأَى بعيدا عن الناس ستنفجر في طريقك: الحرية.. وبذلك لم تنعزل، بل اقتربت من العالم. البعيد عنك هو المُنعَزِل. لأنه تجعلك تفكر. ان سرّ عدم اختلاط المنعزل مع الآخرين، يكمن في قطعه الطريق على التدخلات الفظّة في حياته ولشعوره إنه غير ملزم بتوضيح تصرفاته.

الابتعاد عن الناس

كل واحد منا، يرى نفسه كما هي وعلى حقيقتها كما يرى شوبنهاور ، إن كانت “معرفة النفس” – مفيدة. بينما بول فاليري يرى أن “الوحيد – دائما يقع في مجتمع غبي” ، ونقرأ في رواية يان مارتل “حياة باي” كلاما مشابها: “الفرد يتغير بتأثير مجتمع منسوخ و(ممسوخ)، و في النتيجة، لا يعرف نفسه”. 

سأخبرك عن من مواقف في عزلة ماركيز: “نحن وحدنا في العالم” ولكن لسنا وحدنا تحت الشمس، بمواجهة الضوء ستتحول “وحدنا” إلى “واحد”.. فإن رأيت نفسك.. لن تكون وحدك. 

تيقن أن القليل جدا من الناس سيبقون معك حتى النهاية، وربما لن تجد أحدا في شيخوختك تجلس معه لتتبادلا أسئلة على شاكلة “هل تتذكر..” ، ” ماذا حل بـ..”.

علماء الاجتماع والنفس يطلقون على هذه الحالة: الفردية.. نقاد الأدب استعاروها. وكلهم خشوا وصفها بـ “الوحدة”. وفي النتيجة، إذا تخلى العالم عنك، فتخلَّ عنه، لأن لا توجد “مواكبة للعصر” أثرى من “مواكبته” بخطاك الفريدة. 

وإذا تُركت وحيدا فهذه فرصة مذهلة للتعرف على نفسك. في الليل والنهار، في المدن والصحارى، في الفضاء والبحار.. أينما تكون سر داخل روحك، هناك حيث أهدأ مكان يفهمها ويحتضنها. فالشخص “إذا افتقد (الخلوة) سيكون خطرا من الناحية الأخلاقية” هكذا دعا اندريه تاركوفسكي إلى الوحدة.

خيبة الأمل الكبرى

سأل ألبير كامو في “السقوط “: “هل تعلم حجم الوحدة عندما يتجول شخص وحيد في المدن الكبرى؟” .

هو نفسه المجتمع الذي يعتبر من اختار الوحدة مريضًا، نفسه الذي خيّب أمله وخذله، نفسه الذي غدره بابتذاله وإسفافه ورخصه وطعنه بطبقيته وطائفيته.. هذا الثمن الباهظ الذي دفعه احتراما لروحه وقد تصح نظرية ديكارت “أنا أفكر.. إذاً أنا موجود”، وبغض النظر بمَ تفكر وكيف، ما يشغل أكثر: الموجود. 

الكثيرون ربما لا يدركون قيمة التحدث مع شخص كما لو تكلم نفسك. كما كان يتمنى “أبله” ديستويفسكي ، فكل خبراء علم النفس ينصحون باللقاء مع الأشخاص الذين يعجبونك وتحبهم ويحبونك، صحيح بالطبع، ولا يحتاج الأمر خبراء.  لذلك، نجد المرء  وحيدا. 

ابتعاد الروائي عن الناس

لا يمكن أن تكون وحيدا وتُصّحيك مخلوقات الأساطير وتسامرك الحواديت والحكايات ومعك كل أبطال الروايات يسقون أحلامك كل يوم، مع أن الكل يراك وحيدا، لأنهم لا يبصرون الذي يراه قلبك، فالحشد، دائما، قريب منك عندما لا تحتاجه لكي يزاحمك ويعيقك فحسب.

ومع ذلك حينما يكون الروائي وحده ، كما يقول كلود مونيه: “سيكون عملي أفضل”. لأن، الوحدة ستتفرغ ويكون شغلها الشاغل رسم انطباعاتك الصادقة السعيدة منها والحزينة. ولم أر في انعزالي أيّ شيء خطأ ،علاوة على أننا هناك: لا نخطئ مع أحد، حيث نستطيع بحرية تخزين الماضي، ربما لدي جدران وسقف، لكنها ليست بيتا لأضع فيه ما أملكه. جسدي الذي تمر عبره الذكريات. 

لو كان العالم رحيمًا ، لما التجأ الناس إلى الوحدة ولما فرّقتهم عن أحبّائهم وأوطانهم وبيوتهم ومرابع طفولتهم. 

لو كان العالم رؤوفًا، لما مزّقت الناس العزلة والكآبة وانعدام الأمن.

لو كان العالم عطوفًا ومسالمًا ومتناغمًا مع الحياة، لما ضيّعتنا المتاهات والأوبئة والعنصرية والحروب والعدوانية.

بدأت أفهم رويدًا كيفية عمل العالم على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول. وكما فيه صادقين ونزيهين وأحرار، هناك أيضًا منافقين وزائفين وعبيد، وإن كان فيه رفض وتمرّد ، ففيه في المقابل، طاعة وخنوع.. ومثلما يوجد شجعان، هناك جبناء. ويبدو أن تكافؤ الفرص متاح لجميع الاحتمالات الألوان والأشكال.

وأخيرًا ..

سنقلّب مفكّرة اليأس لنستحضر وإياكم خيبات الأمل بلسان البعض من دوّنها شعرًا ونثرًا .. وسنقرأ ما قاله دعبل الخزاعي حينما أحصى الذين تبقوا معه في نهاية المطاف: 

ما أَكثَرَ الناسَ لا بَل ما أَقَلَّهُمُ     اللَهُ يَعلَمُ أَنّي لَم أَقُل فَنَدا

إِنّي لَأَفتَحُ عَيني حينَ أَفتَحُها    عَلى كَثيرٍ وَلَكِن لا أَرى أَحَدا

ولعل اليأس يحفّز الشعراء ، كالحزن .. وهو ما يدفعهم للكشف عن طبيعتهم وبعض أسرار حياتهم الخاصة. 

ولحسن الحظ فأن “اليأس الشديد كالفرح العميق”، لا يستمر طويلًا كما كتب فيكتور هوغو في  “أحدب نوتردام”، بالرغم من أن جذور الدموع أعمق من الابتسامة، لنتعامل مع اليأس مثل “فرناندا” ماركيز في “مائة عام من العزلة” التي لم يزعجها المطر ، لأنها “قضت حياتها كلها كما لو كانت تمطر”.

تعليق واحد

اترك تعليقاً