هند السليمان - أكاديمية من السعودية

في القراءة التحليلية للأفلام لا أُحمّل الأرقام – التي يختم بها النُّقاد حكمهم على الفيلم – أهمية كبرى، لقناعتي أنَّ تقييم الفيلم لا يجب أن ينحصر بالإشادة أو التقريع، بقدر ما هو تقديم تأويلات تمنح المشاهد زوايا جديدة للنظر إلى الفيلم، وكلّما تنوَّعت التأويلات أو تعمَّقتْ؛ دلّ على القيمة الفنية للفيلم.

من هنا، تعلو قيمة الفيلم حين يخرج المشاهد وهو محمَّلٌ به؛ عبر أسئلة ومشاعر متضاربة خلقتها عملية المشاهدة. وبهذا يصبح الحكم على رداءة فيلم ما حين يخرج المشاهد دون أي أسئلة تثقل تفكيره أو مشاعر تربك وجدانه، فحتى شعور الغضب والنفور أو “عدم الارتياح” بعد مشاهدة الفيلم، بحسب تعبير خواكين، يُعد دليلاً على وجود صنعة سينمائية تستحق التأمّل.

فيلم الجوكر شاهدته بهاجس السؤال التالي: لماذا لم يصنع الفيلم جمهوراً محايداً، فإمّا إعجابٌ وتبجيل لعظمة الفيلم، وإمّا نفورٌ وتسفيه له؟ هذا الانقسام الحادّ على طرفي نقيض تجاه الفيلم، ما دلالته؟ كما أشرتُ، الأثر الحادّ الذي يصنعه فيلم، أيُّ فيلم، أجده علامة نجاح، فهو يشير إلى أنّ الفيلم لامس الناس بشكل حاد ودقيق، مما أسهم في خلق ردة الفعل القوية، حتى وإن كانت ردّة الفعل هي النفور. لهذا، أجد الفيلم يستحق التوقف والتحليل.

فيلم الجوكر يمكن قراءته بأبعادٍ متعدِّدة، فبقراءةٍ سياسيةٍ، الفيلم يتناول صراع الطبقات داخل مدينة حديثة، وكيف أنَّ هذا الشكل من الصِّراع يسمح للنظام الاجتماعي والاقتصادي بقمع الفئات المهمَّشة في المجتمع. الفيلم قدَّم هذا عبر عرضه لمشاكل مدينة تتصدَّع ومعاناة فقرائها ولامبالاة أغنيائها. وكخلفية للأحداث، يقدِّم الفيلم شخوصاً ينتمون لكلا الفئتين لنلامس هذا الصِّراع على واقع أفراد المجتمع، حيث يظهر الاختلاف الطَّبقي بين طبقة الأم وطبقة الأب، والتَّفاوت بين حظوظ كليهما وفقاً لطبقته. المفارقة أن الفيلم في مشاهد يُوهمك أن البطل (الجوكر) لا ينتسب إلى كلا الأبوين، فهو متبنَّى، وكأنّ الجوكر ليس مجهول الهوية وحسب، بل والطبقة الاجتماعية، أي هو خارج هذا الصِّراع الذي وجد نفسه ملتبس به.

أمّا لو تناولنا الفيلم بقراءة دينية، فلعلَّ الفيلم يلامس رمزية المسيح؛ الجوكر وأمّه الوحيدة بلا أب/زوج، الأم الوحيدة مع ابنها الغريب. الأب الذي تُرسل له النداءات/الرسائل ولا تصل فهو لا يستجيب أبداً. إضافة لهذا، ألا تمثل وضعية الجوكر لحظة إخراجه من سيارة الشرطة ووضعه على السيارة وضعية المسيح بعد صلبه في الفكر المسيحي؟! أتكون الثورة التي أطلقها الجوكر بعد قيامة من اصطدام السيارة، ماهي إلا تمثيلاً لقيامة المسيح؟! 

على أي حال، لأن الحديث في السياسة، وكذلك في الدين له مخاطرة، فلنتحدث عن قراءة أخرى للفيلم؛ ولنقدِّم قراءة نفسية له.

بعيداً عن تاريخ الشخصية كما ظهرت في أفلام سابقة، أو كما وجدت في المجلا المصوَّرة (الكومكس)، البطل في هذا الفيلم يظهر كشخص “غريب الأطوار”، فهو يتصرَّف بطريقة لا تتماشى والسلوك المعتاد، مما يُسهل عملية تمييزه وتصنيفه كشخص مختلف يجب إبعاده أو السخرية منه. في المقابل غرائبيّته التي تسهّل من عملية إبعاده عن المجتمع، تُفقده فرصة التواجد في وسط اجتماعي يكتسب منه مهارات للتواصل الاجتماعي اليومي، مما يؤدِّي إلى غرق البطل في المزيد والمزيد من غرابة السلوك.

وما يضاعف الأمر سوءاً، مرضه العصبي الذي يجعل ضحكته ماهي إلا حالة عصبية لا تحمل معنى شعورياً أو اجتماعياً مباشراً، بل خلجات عصبية يعجز عن التحكم بها حد الاقتراب من الشعور بالاختناق في كلِّ مرة لتزيد من ارتباك تواصله الاجتماعي. الضحك يُعدُّ ردّ فعلٍ يُسهم في خلق حميمية ما عبر فتح نوافذ للتواصل بين الأفراد خارج اللغة، هنا تصبح أداة تُكرِّس بها غرائبية البطل وانفصاله عن محيطه. هذه الخصائص والصِّفات الشَّكلية والسُّلوكية اجتمعت لدى البطل لتجعل المهنة الوحيدة المتاحة له هي مهنة المهرِّج (الجوكر) بما يتطلبه من غرابة وصخب في الحضور.

لنتوقف هنا عند ضحكة الجوكر والتي تُعدّ أحد أهم “المؤثِّرات” التي أُضيفت للعمل لتخلق تواصلاً شعوراً عميقاً وذكياً بين المتفرِّج والحالة التي يصنعها البطل، ضحكة البطل – كما يتلقّاها المشاهدة – مزعجة ومربكة، بل ومخيفة، تشعرك بقلق أنَّ الشخص الذي أمامك “مجنون” لا يعي واقعه، فهو يضحك بلا سبب ظاهر ليختنق بشكل مخيف لا تعرف ماذا تفعل معه. كل هذا يصيبك كمشاهد بقلق مزعج، ولعل الفكرة من هذا أن تُعايش هذا الشعور وتختبره فهو ذات الشعور الذي يعيشه المحيطون بالبطل. وكأن المخرج لا يريدك فقط كمشاهد للفيلم ولبطله، بل كأحد جموع الأفراد المحيطين بالجوكر. يريدك أن تتماهى مع الحالة، فإن شعُرت بالضيق فهذا هو الشعور الذي تشترك فيه مع المحيطين بالجوكر، ممن ينتهي بهم الحالة لتهميشه والقسوة عليه. إنه درسٌ أخلاقي قاسٍ يُشركك فيه مخرج الفيلم دون إرادتك.

ألا تجتاحك الرغبة – وأنت تشاهد الفيلم – بإسكات هذه الضحكة المزعجة كما حال المحيطين به؟! فأنت إذن تراه كشخص مزعج، أنت لا تختلف عن “المتنمِّرين”، حتى وإن أظهرت تعاطفك معه، فحقيقة انزعاجك من ضحكته يكشف أمرك. وكأنَّ عمق تعاطفنا الإنساني مع الآخرين لا يُختبر إلا بمدى قدرتنا على تقبُّل الآخرين أيّاً كانت غرائبية سلوكهم دون انزعاج واشمئزاز.

على صعيد آخر، ضحكة البطل ماهي إلا نتيجة فشله في التحكم في عضلات وجهه، وكأنّها إشارة إلى عدم قدرته على التحكّم بذاته/بجسده. ومن المفارقة أن يختار العمل كمهرِّج بما تتطلبه من قدرة على التحكّم بالضحك والإضحاك! وكأن الفيلم يتلاعب بهذه المفارقة: ضحكة الجوكر هي مرضه، فيما حلمه أن يشتهر ككوميدي مُضحك! أن يكون حُلمنا هو مرضنا، هو عاهتنا. هذي المفارقة يختمها المخرج في نهايات الفيلم حين يستطيع البطل أن يصنع ابتسامته، ابتسامته الشهيرة بنفسه وذلك حين يرسمها بأطراف أصابعه، ولكنه يصنعها من الدم الخارج من جسده. 

الشهرة هاجس البطل طوال الفيلم، المخرج يصوِّر هذا الهاجس عبر تقديمه لحياة البطل المملة والروتينية، فيما الشهرة عكس ذلك. الشهرة بتعريف البطل تمثل اعترافاً به، اعتراف لم ينله يوماً. يريد البطل أن يكون مشهوراً وأن تكون شهرته عبر إضحاك الناس، ولا نعلم سبب هذا الحلم تحديداً، هل لأن أمّه تطلق عليه اسم “سعيد” (هابي) أم بسبب ضحكته الصاخبة وكأنه يحاول إيجاد معنى لضحكته/لمرضه العصبي؟ المفارقة أنَّ أمَّه تطلق عليه اسم هبي وهي من تخبره بأنه غير مضحك.

البطل يحصر مجال الشهرة بالقدرة على إضحاك الناس، وكذلك يحدده بالظهور في برنامجه التلفزيوني المفضَّل. فحلم الاعتراف محدَّد وواضح في تفاصيله؛ حيث يتخيَّل رد الفعل الأول حين ظهوره في ذاك البرنامج يتمثل بالاستنكار والسخرية ثم الإعجاب والتقدير. هكذا يتخيل طريقه للشهرة، فهو يعي أنه يتعرَّض للسخرية، ولا يرغب أو لا يهتم بمحو ذلك حتى من حلمه، ولكن ينتظر لحظة التقدير التي يستحقها، فهنا سيكون للاعتراف طعم انتصار أكبر.

على صعيد الشخصية، الجوكر في الفيلم يعيش علاقة فرويدويه مع أمه، تتمثل بالالتحام التامّ بالأم مع غياب لوجود الأب. البطل على الرغم من عنايته بأمه إلا أنه يظهر معها كما لو أنه لازال طفلها الذي لم يكبر، فهو يشاركها السرير ويشاهد معها ذات البرنامج، وهي حين تخاطبه تفعل ذلك باسم تدليل طفولي، فيما الأب في حياة البطل غائب وتواجده يظهر في حالتين: كأب حقيقي وكأب متخيَّل.

الأب الحقيقي يتمثل بالرجل الغني الذي ترسل له الأم رسائل لا يستجيب لها وحين يطّلع الابن على إحدى تلك الرسائل يكتشف حقيقة أصله ومن هو أبوه. معرفة تفجِّر فيه كل الغضب تجاه الأم. المخرج هنا مارس حيلة شيطانية ضد المشاهد. في البداية، لم نعرف من هو الأب ولم يصنع لدينا الفضول لمعرفة ذلك، ثم جعلنا نكتشف مع البطل من هو والده، لينتقل بعد ذلك إلى كشف آخر يتمثل في كون ذاك الرجل هو أب في خيال الأم فقط، فالبطل ما هو إلا طفل متبنَّى. هذا الأمر يجعل البطل يُصاب بصدمة أخرى تدفعه لقتل الأم، وهنا يُلقي فرويد بظلاله على هذا المشهد. البطل بعد قتل أمه اكتشف كم هو وحيد، لذا، أراد العودة إلى المكان الأول، ومن هنا إفراغه للثلاجة ليمكث فيها، لتصبح الثلاجة كرحم يُعاد عيشه، ولكنه للأسف رحم بارد لا يبعث الدفء ولا يمنح حياة جديدة.

التلاعب الذي مارسه المخرج على المشاهد يتمثل في إقناعه للمشاهد بأن البطل متبنّى وأنّ أمّه تعاني من اضطرابات نفسية تجعلها تخترع قصة الحب بينها كخادمة وبين السَّيد، وما نتج عن هذا من ابن. ثم يرمي المخرج، ببراعة، مشهداً سريعاً للبطل وهو يتأمّل صورة فوتوغرافية للأم وهي شابّة وعليها عبارات غزل موجّهة من السَّيد للخادمة. وبهذا يقول لنا المخرج أنّ الأمَّ، على الرغم من اضطرابها، لم تخترع قصة أبوّة أو أمومتها للجوكر، بل هي أمّه وذاك والده.

على أية حال، لم تكن تلك الحيلة الوحيدة التي مارسها المخرج ضد المشاهد، فقد تلاعب المخرج بنا عبر مزجه خيال البطل مع واقعه لدرجه جعلتنا نعيش خيال البطل كواقع له. فعل ذلك مرتين، مرة في تخيل البطل لظهوره في البرنامج التلفزيوني ومرة في تطوّر العلاقة مع الجارة على نحو عاطفي. لعلَّ المخرج فعل ذلك، كما فعلها مع ضحكة المهرج، ليجعلنا لا “نتفرج” على البطل بل نعايش واقعه حتى وإن اختلط واقعه مع خياله.

بالعودة إلى الأب المتخيَّل فنجده يتمثل بالمذيع التلفزيوني الذي يحلم البطل بلقائه، لقاء يمنحه الاعتراف أولاً ومن ثم الشهرة، فهو يتخيل المذيع وهو يقول له: “أستغني عن كل شيء مقابل أن تكون ولداً لي”. المفارقة استخدامه لمفردة “ولد” وليس “ابن”، وكأنّ البطل لا يعيش “التثبيت” كحيلة دفاعيه مع أمه بل ومع العالم أجمع.

الواقع يمنح البطل فرصه للقاء والده المتخيّل، ولكنه لم يتم كما حلم وأراد. لذا، انتهى اللقاء بقتل الأب لأن المذيع أثار خيبة البطل فهو لم يحتضنه كإبن، بل أحضره ليسخر منه، ليصبح المذيع الذي تصوَّره البطل حلماً كطريقة للحصول على الاعتراف والتقدير بعد سنوات التهميش والسخرية، ما هو إلا إعادة تمثيل – وبشكل صاخب – لتكريس كل السخرية والاستهزاء التي يتعرَّض لها البطل. فما كان من حل أمام البطل إلا قتل الأب حتى لو كان أباً متخيَّلاً، ولكنه بالتأكيد قتلٌ للأب على الطريقة الفرويدوية.

ما سبق، قراءة نفسية مختصرة لملامح ولإشكالية بطل الفيلم. إلا أنه لا بد من التنويه أن الفيلم يلامس قضايا عدَّة من المهم التوقُّف عندها، هذه القضايا يمكن طرحها من خلال النقاط التالية:

  1. الصورة النمطية للمرض النفسي: الفيلم أثار جدلاً بين العاملين في مجال الخدمات النفسية، حيث انقسموا بين ساخطٍ على الفيلم لتكريسه الصورة النمطية التي ترى “المريض النفسي” كشخص عنيف وخطر على المجتمع، وبين من يرى أن الفيلم يقدم توعية نفسية حيث يستعرض بروفايل لشخصٍ مصابٍ باضطرابٍ نفسي مع تقديم لبعض العوامل البيئية والجينية المؤثرة على تطور الاضطراب. برأيي أنّ الفيلم، وأيّ فيلم، حين يقدِّم بطلاً إحدى سماته الاضطراب النفسي، ومن ثم يستعرض مآلات البطل، فليس بالضرورة افتراض أن الفيلم يُعمم هذه المآلات على جميع المرضى النفسيين. فمثلاً، حين يُقدم فيلم ما، مصير ابن قرية قادم للمدينة وكيف تنتهي حياته إلى اقتراف جريمة، فهل هذا يعني أن الفيلم يقترح أن جميع أبناء القرى مجرمين؟ الأمر الآخر، الفيلم وبشكل واضح، ولعله مقصود، لم يقدِّم أيّ تشخيص مباشر لطبيعة اضطراب البطل، نعرف أنه يعاني من اضطراب وأنه يتناول أدوية، ولكن الفيلم لم يذكر أياً من أسماء أدويته أو تصنيفاً مرضياً له، وكأنّ القضية في الفيلم ليس المرض ذاته، بل ما يمنحه المرض من سهوله للتميّز، هذا التميّز الذي رأينا أثاره على بؤس البطل.

بل إن الفيلم يستعرض قضية اساسية تُهم العاملين في حقل الخدمات النفسية وهي أن الصورة النمطية حول المرضى النفسيين قد تُسهم بضياع حقوقهم، ضياع بشكل لا إنساني وغير مقبول. هذا الأمر جسَّده المخرج عبر تقديمه لما تعرَّضت له أمّ البطل، أم آرثر. فلكون أنَّ للأمِّ ملفٌ طبيٌّ يُحدد طبيعة مرضها ويؤكد حقيقة اضطرابها النفسي، جعل من السَّهل إنكار الأمومة عليها واعتبار أمومتها تخيَّلات وهلاوس صنعها مرضها. وأنَّ الطفل الذي معها ما هو إلا طفلٌ متبنَّى، فأيّ ظلم أشد من هذا؟ كل هذا حدث لأنّ الأب يتمتع بنفوذ و”صلاحية نفسية”، فيما الأم “مريضة نفسية” مما يُسهل عمليه إنكار حقّها، حتى حقها بأمومة ابنها.

  1. العلاقة بين الفرد والمجتمع: تتمثل هذه القضية عبر علاقة البطل بمجتمعه. الفيلم يشير إلى أن المجتمع يصنع الفرد وذلك عبر الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع هذا الفرد، وبالمقابل، السيرورة التي يتشكل عليها الفرد تظهر انعكاساتها على المجتمع وخصائص أفراده. فالمجتمع ما هو إلا تمثيل واسع وأكبر للأفراد وطبيعتهم وخصائص علاقاتهم. من هنا فالبطل، الفرد، حين تعرض “للتنمُّر” من قبل المجتمع، بدأت بعد ذلك سلوكيات العنف تظهر لديه شيئاً فشيئاً. سلوكيات العنف لدى البطل لم تكن مفاجئة بل تصاعديه، وكأن المجتمع هو من يقوم ببنائها، وما يحدث بعد ذلك أن الفرد الذي شكّلته قسوة المجتمع ليكون عنيفاً، سيحوِّل عنفه إلى المجتمع نفسه. البطل تعرَّض لخذلان من المحيطين؛ خذلان الأب، والأم، والمعالجة النفسية، والمذيع، والنظام. كلّ هذا انتهى لأن يخذل هو المجتمع بتمرُّده العنيف عليه.
  2. أمخيّرٌ أم مسيّر: إحدى الإشكاليات التي يطرحها الفيلم تتمثل في تناول القضية الفلسفية المتمحورة حول سؤال: هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟ أحد الاعتراضات على الفيلم كانت اعتراضات أخلاقية حيث ترى أن الفيلم يُبرر لفعل القتل، وكأنّ لا إرادة للفرد، وبالتالي لا مسؤولية على الفرد/القاتل. الفيلم يصوِّر البطل وهو يقوم بفعل القتل خمس مرات، وفي السادسة لا نشاهد عملية القتل ولكنها متضمَّنة وفق سياق المشهد بشكل غير مباشر. إنْ تأملنا في تسلسل عمليات القتل نجد جريمة القتل الأولى والثانية كانتا عرضيتين لم يخطط لهما البطل ولم يقررهما، فيما عملية القتل الثالثة، والتي كانت على سلّم الدَّرج وضحيتها الموظف المالي، لم يخطط لها البطل ولكنه قرَّرها. هنا، تحوَّل الفعل من حادث عرضي كردِّ فعلٍ مباشرٍ إلى عملية اختيار وقرار، لينتقل بعد ذلك في عملية القتل الرابعة إلى عملية تخطيط وقرار وذلك حين ذهب إلى المستشفى بنيّة مسبقة لقتل أمه. وكأن الفيلم يقترح إجابة على السؤال الفلسفي تتمثل بأن الفرد – وإنْ كان مسيّراً في مواقف خارج سيطرته، إلا أن – له حرية الاختيار في إكمال المسيرة أم لا.
  3. الدرس الأخلاقي: الشخصية الأمريكية شخصية وعظية، لذا نجدها تحبّ الخطابة، ونجد الأفلام الأمريكية – مهما صنَّفت نفسها كأفلام ترفيهية، إلا أن – لغالبيَّتها درساً أخلاقياً تقدمه. الدرس الأخلاقي الذي يقدِّمه فيلم الجوكر يتمثل في التشديد على حاجتنا جميعاً للاستماع، أن نجد من ينصت لنا، من يعترف بوجودنا. هذه الحاجة إنْ تحققت قد تخلَّصنا من عذابات كثيرة نعيشها، ومن هنا يصبح من واجبنا الأخلاقي، وفقاً للفيلم، أن نستمع للمحيطين من حولنا. البطل في الفيلم نجده يصرخ حانقاً على المعالجة لأنها لا تستمع إليه.

وفي موقف آخر نجده يصرخ بوجه المذيع (أبيه المتخيَّل) بأنه لا يسمع. في كلتا الحالتين يعبِّر عن ذلك بصوت ساخط لشخص يشعر بالخذلان. هذا الاستماع حاجة لا تخصّ البطل وحده، بل المدينة ذاتها التي تشكو من أن لا أحد يستمع إليها، كما يظهر في قوافل الجرذان التي تجتاح المدينة لأن “النظام” لا يستمع للمدينة ولحاجتها، ولأن المسؤولين لا يستمعون إلى حاجات سكان المدينة. فقدان التواصل الإنساني المتمثل بالاستماع، وفق الفيلم، هو ما تسبب بكل هذه الفوضى.

  1. موت البطل: ذهابي لمشاهدة الفيلم كان بهدف التعرُّف على سبب الانقسام الحادّ لدى الجمهور بين محبٍّ أو كارهٍ له. وبعد مشاهدته قررتُ الكتابة عنه للإجابة عن سؤال: لماذا كره البعض الفيلم بكل هذه الحدِّية؟ من الطبيعي أن فيلماً ما لا يعجب البعض، ولكن مع فيلم الجوكر وجدتُ جمهوراً شديدي الكراهية له، فما سبب ذلك.

برأيي، الأفلام التي تتناول مفهوم البطل على طريقة “السوبر هيرو” غالبا تُقدم القصة من منظار صراع الخير والشر، وهذا يجعل للقصة أخيارٌ وأشرار واضحو الملامح. في فيلم الجوكر لا نجد هذا الخط المريح، بل أغلبية الشخصيات المحيطة بالبطل رُسمت على نحو باهت لا تستطيعُ معها تصنيفها إلى خانة الخير أو الشر، هذه الحيرة غير مريحه للبعض. يضاف إلى هذا، أن الفيلم يُلمح أن المدينة/الحياة بذاتها قاسية، فلا خانة ممكنه للاختيار.

الأمر الآخر، الجوكر وهو البطل الأسطوري الذي يُقدَّم في أفلام وقصص “الكومكس” ممثلاً للبطل الخارق المتمرِّد على المجتمع، ظهر في الفيلم كرجل عادي له أمٌّ وأبٌ، وبحياة يومية روتينية لم يكسر روتينيَّتِها إلا فعل الجريمة. ألا يكون بهذا وكأنَّ الفيلم يعلن “موت البطل” بالمفهوم الأسطوري؟! فالبطل في الفيلم مجرَّد شخص “مريض نفسيّ” بسلوكيات غريبة وساذجة، فالبطل/الجوكر فردٌ ضائعٌ بلا هُوية أو عزيمة مسبقة على فعل البطولة، بل هي ظروفٌ متداخلة وضعته في هذا الموضع. أليس هذا إعلان لهزيمة البطل وبالتالي هزيمة لأبطالهم، أبطال المشاهدين؟ بهذا، فكما أعلن نيتشة “موت الإله” فإن المخرج فيلبس، بهذا الفيلم يعلن “موت البطل السوبر”. ولعلّ هذا الإعلان الصَّادم هو أحد الأسباب لكراهية الفيلم بهذه الحِدية.

تعليقان

  1. لعلها أجمل قراءة لفيلم الجوكر، جعلتني أتلمسه مجددًا بصورة مختلفة تماما.

اترك تعليقاً