عبده خال
عنوان المجلة هو (النص الجديد)، أي كتابة نص متقدّم، فهل هذا العدد (المنشور الآن) بكاء على اللبن المسكوب؟ أم استحضار الذكرى لمجلة حداثية خرجت للخارج لكي يتنفس كتّابها كتابة ذلك “النص الجديد” بعيدا عن أعين الصحويين الذين كانت أعينهم كلاليب من سوء الظن، يعلق فيها الشاعر أو القاص أو الناقد من عروة قميصه، كمتّهم اقترف أمرا نُكرا بكتابته النص الحداثي أو الانتماء للحداثة؟
أم أن الكتابة عن تلك المجلة يعد بحثا متأخرا عن موتها المفاجىء؟
أعتقد أن الكتابة عن مجلة (النص الجديد) هي سلوى لاستذكار النصوص المتقدمة التي كتبت في الثمانيات الميلادية بالرغم من الضغوط المهولة التي مارسها الصحويّون ضد كُتّاب الحداثة في تلك الفترة، فكُتّاب الحداثة كانوا ينشدون تطوّر المجتمع من خلال رؤية مستقبلية، تلك الرؤية التي كانت تقض مضجع الصحويىن، لأن المجتمع كان مُذعنا لدعوتهم لصالح التشدّد الديني، وساهم في تموضعهم تساهل بعض الجهات الرسمية، كما إن الجوامع منحتهم انتشاراً عاطفيا ضد من اتهموهم بالكفر والعداء للدين والوطن، وكان كتاب (الحداثة في ميزان الإسلام) هو دمغة التمييز بين الكافر والمسلم في حياتنا الاجتماعية، وأصبحت مفردة “حداثي” مرادفة لكلمة (كافر)! ويبدو أن المشادة جدلياً بين الحداثيين والصحويّين قد راقت لبعضهم، فتُرك الحبل على الغارب في اتهام الحداثيين بما شاء القائل قوله في الحداثة والمنتمين لها، وقد كان لكتاب (الحداثة في ميزان الإسلام) أثر كبير، بل زلزال في تثوير المجتمع ضد كُتّاب الحداثة، وقد تمادت الأندية الرياضية، وبعض الأندية الأدبيةو وكثير من المؤسسات الأخرى، في منح مؤلف (الحداثة في ميزان الإسلام)، ومن هم على شاكلته، فرصة تلو أخرى، لإلقاء المحاضرات والندوات في المساجد والمراكز الصيفية وغيرها، حتى إنهم حاضروا في بعض الأندية الأدبية، التي يفترض أن تكون محاضناً للأدباء والمثقفين، فما كان من أولئك الصحويين إلا كيل التهم للكُتّاب الحداثيّين، تهم في الدين والوطنية، وتشويه السيرة الشخصية لأي منتمٍ للحداثة.
وإن كان هذا للاستذكار، فمن الجدوى الإشادة ببعض الصحف المحلية، تبجيلا لدورها الريادي في مناصرة التيار الأدبي الحداثي، فقد فردت صفحاتها لشباب الحداثة واحتضنت كتاباتهم، أمثال جرائد: اليوم، الرياض، عكاظ، ومجلة اليمامة، وهي الصحف التي يحسب لها أنها قاومت الضغوط الصحوية كثيرا، وإذا زاد الضغط عليها لعبت لعبة “منين آكلك يابطة!” (هو مثل شعبي لا يليق ذكره في مقالة تدّعي الرصانة)، فمن عاش تلك الفترة وكان حاضراً فيها، سوف يستذكر كيف كان حال الصحف فيها بين ناريين: إما الوقوف مع قلة من المثقفين، أو إرضاء الشريحة الأكبر من المجتمع.
ويمكننا أيضا فتح قوس كبير: (لولا تلك الصحف لما انتشر التيار الحداثي إلى أبعد من أفواه الحداثيين أنفسهم)! ومن الإنصاف إذا ذكرت فترة الحداثة القول إن من ساند الحداثة هي تلك الصحف وبعض الأندية الأدبية وقليل من المؤسسات الخاصة، وفي مقدمتهم نادي جدة الأدبي برئاسة الأستاذ عبدالفتاح أبو مدين، الذي لم يهادن، واستمر في مناصرة الحداثيين إلى آخر نفس جال في صدره.
وذاكرتي مع (النص الجديد)، هي ذاكرة مزعجة للغاية، إذ نشرتُ فيها نصا بعنوان (شيء خارج الذاكرة)، وهو نصّ أحدث ضجيجا في الداخل والخارج، وجرت مهاجمتي بسببه من كُتّاب كثر (جلّهم من التيار المحافظ) حتى إن بعضهم تعدّى عليّ تعدّياً مباشرا، وأوصلني هذا النص إلى التحقيق على مدى سنتين كاملتين من قبل أربع جهات، ومع ذلك العنت اكتسبت الصلابة فيما أكتب، ومحاولة إظهار ما خفي على القارىء الذي تسبق نواياه السيئة قراءة النص الأدبي، وانتهى التحقيق بتفهّم محقق وزارة الإعلام، وقفل التحقيق في الجهات الأربعة، مع التعهد بعدم نشر النص في كتاب، أو إعادة نشره في صحيفة أو مجلة.
ظللت لزمن محتفظا بذلك النص، إلا أنّ كثرة التنقلات من سكن إلى سكن، أضاعت النسخة المكتوبة، وظللت مطمئنا إلى أن النص محفوظ في جهاز الكومبيوتر، ومع التغيّرات التقنية التي ظلت تطال الأجهزة ووسائل حفظ البيانات، حرصت على إبقاء أجهزتي القديمة معي، ولا أعرف حتى الآن هل بالإمكان استعادة ما في ذاكرة تلك الأجهزة القديمة وقراءة محتوياتها، أم أنها تبخرت هي الأخرى!