المشي, بهجة العودة إلى الأصل
عزّت القمحاوي
يشعر الوليد بالضيق فيبكي ويرفس الهواء، وعندما تغمره غبطة الشبع والدفء تُدمدم قدماه الصغيرتان وترفرف ذراعاه. في الحالتين يحلم بالمشي، وتبحث قدماه الصغيرتان عن الدرب هربًا من وضع غير مناسب أو تطلعًا إلى الاحتفال بسعادته، ثم يداوم على ذلك بقية حياته.
هذا الملف تمشية ثقافية تتطلع على طريق المشي الطويل، لترى ما يقع في الظل محجوبًا خلف الصور المعروفة عن المشي كممارسة ملازمة لوجودنا.
الوصية الأولى: امش!
في البدء كان «المشي» ممارسة بديهية. ولم يزل تنقيل الإنسان لقدميه واحدة بعد الأخرى عملًا تلقائيًّا نفكر فيه بأوقات صحتنا، لكنه أقرب إلى المعجزة في أوقات الضعف. تتنادى العائلة لرؤية الخطوة الأولى للطفل وتوثيقها بالكاميرا، وتتناقل الهواتف باستبشار خبر الخطوة الأولى للمريض بعد يأس من شفائه.
عندما لم يكن يملك الإنسان سوى قدميه، كان المشي هو الوسيلة الوحيدة لاكتساب الرزق والاكتشاف والهروب من الأخطار، بعد ذلك استأنس الدابة لتحمله بشكل أسرع إلى أهدافه، ثم كانت العجلة التي قادت إلى اختراع عربات تجرها، وكانت السفن، ثم وسائل النقل الميكانيكية من عربات وقطارات وطائرات. ومع زيادة التخصص في الوقت الحديث أصبح الوقت إلى سلعة غالية، بات الوصول أسرع هوسًا عصريًّا، ثم أتت شبكة الإنترنت بإمكانية العمل من المنازل، فتقلصت فرص المشي بشكل غير مسبوق.
ومن حسن الحظ أن التطورات العلمية الجديدة التي قلَّصت الحاجة إلى بذل جهد ووقت، جاءت بصحبة الوعي بأهمية الجسد والعناية به من خلال الرياضة، وحدها الأدنى المشي.
وصية الطبيب الأولى لمريضه هي المشي. وللدقة فهي وصية أطباء العصر الحديث، فلم يكن هذا هو حال الإنسان قبل خمسين عامًا.
خلال المشي تتحرك جميع العضلات ويزيد تدفق الدم إلى جميع أعضاء الجسم، لذلك يعتقد الأطباء أنه أكفأ من ممارسة التمارين الرياضية القوية في صالات الألعاب. يحرق المشي السعرات الحرارية الزائدة ويحافظ على اللياقة البدنية، ويساهم في الوقاية من الأمراض المزمنة كأمراض القلب وارتفاع ضغط الدم وداء السكري، كما يُخفض مستوى الكوليسترول الضار في الجسم ويعزز صحة العظام، حيث يعالج الهشاشة، وهذا بدوره يقلل من احتمالات تقاصر القامة الذي يبدأ بعد الأربعين. وفوق كل هذه العطايا، يمنحنا المشي هدية نفسية: الحد من القلق والاكتئاب.
في العادة تكفي ٣٠ دقيقة في اليوم، بل تكفي عشر دقائق بانتظام يومي. والركض أكثر فائدة من المشي لمن استطاع. وتعتبر جمعية القلب الأمريكية أن المشي بمعدل ٣٠ دقيقة باليوم لخمسة أيام بالأسبوع، يعادل حصيلة الركض لمدة ٢٠ دقيقة باليوم بمعدل ثلاثة أيام بالأسبوع.
تخصيص وقت للمشي نحصل على فوائد نفسية كهدية، وإن لم نستطع يمكننا أن نستغل مشاويرنا العادية للتسوق أو الذهاب إلى مقهى داخل الحي كوقت لتحسين الصحة. ولا يتطلب الأمر سوى بعض الشروط التي تجعل الرحلة مفيدة، وأولها الوضع المعتدل للقامة. استرخاء الرقبة والأكتاف دون الانحناء أو النظر لأسفل، تحريك الذراعين بحرية مع انحناء طفيف عند المرفقين، عدم تحريك الساق من أصلها بحركة واحدة لتحقيق المرونة عند الركبة، شد البطن، وملامسة الأرض بالكعب قبل مقدمة القدم.
في اللغة.. واقعًا ومجازًا
في المعجم الجامع: مشَى الشَّخْصُ: سار، انتقل على قدميه من مكان إلى آخر بإرادته، ذهب ومضى. ومشي: تحرَّك من مَكانه ونَقَل قَدَميه الواحِدة بعد الأُخرى. وهذا التفصيل يعني أن إحدى القدمين تكون على الأرض عند المشي، بينما ترتفع القدمان معًا للحظة عند الهرولة والجري. ويذهب ابن منظور صاحب لسان العرب إلى المعاني الجازية للمشي؛ ومنها المشي بين الناس بالنميمة، والمُشاة الوشاة. كما أن كل مستمر ماشي، نقول قد مشيّ الأمر. والماشية تكون من الإبل والغنم، وأمشى الرجل كثرت ماشيته. وهناك الكثير من المعاني المجازية المستحدثة لأننا نملك لغتنا كما كان الأقدمون يملكونها، فنقول بطني ماش عليَّ، والتعليمات والقوانين السارية ماشية، والراحل من عمل أو من الدنيا ماش، والأجمل من الكل الموافقة: «كلامك ماشي».
مشي الأنبياء والمؤمنين
لابد لكل نبي من هجرة، ولكل مؤمن من حج.
يهاجر الأنبياء بسبب عناد الأقربين، ويغادر الحاج أهله ويذهب إلى حيث وضع نبي أو قديس قدمه. يثبت قوة إيمانه عبر هذا الاتباع للخطى. يترك كل حياته وراءه، يغادر تنوع الفرص والشهوات ليمضي خفيفًا، ذرة بين ذرات تشبهه، تجردت مثله من كل تعلق وتشابهت في الهدف. البعض يتخلى عن رحلة العودة إما بسبب الموت أو بسبب استعذاب البقاء في مكان الحج، اكتفاءً برابطته مع السماء عن روابط في الأرض، لا يكف عن المشي، وكل الاختلاف أن المسار المستقيم في رحلة الذهاب تحول إلى دوائر.
المشي طفولة!
«المشي فلسفة» للفرنسي فردريك غرو واحد من الكتب العابرة للأجناس الأدبية؛ فهو كتاب في النقد الثقافي والتأريخ الأدبي والتأملات، لكن موضوعه الأساسي هو المشي. صدرت النسخة الفرنسية للكتاب عن دار فلامريون عام ٢٠١٩، بينما صدرت ترجمته عام ٢٠٢١ عن دار معنى السعودية، ونقله إلى العربية سعيد بوكرامي وراجعه عبدالسلام بنعبدالعالي.
بداية يؤكد غرو: المشي ليس رياضة. الرياضة قضية تقنيات وقواعد، ونتائج مباريات، تتطلب تدريبات، معرفة الأوضاع، وتمكنًا من الحركات الجيدة. ثم بعد فترة طويلة، يأتي الارتجال والمهارة.
والرياضة كذلك ترتيب وقسمة نتائج بين غالب ومغلوب. هناك وجه قرابة بين الرياضة والحرب. تعني الرياضة كذلك الاستعراض الإعلامي والسلع، حيث يتهافت مستهلكو العلامات التجارية. يتأمل غرو علاقة الرياضة بالاستعراض والتجارة بعمق يذكِّرنا بمقال إدوارد سعيد عن التنس؛ فهذا المفكر الموهوب والعازف والناقد الموسيقي كان يلعب التنس أيضًا، وقد عبَّر في مقال مهم عن قلقه من تقلص مساحة الفن والمتعة في اللعبة وزيادة مساحات التجارة والاستعراض.
يختصر غرو الفرق، يكتب: «المشي ليس رياضة. وضع قدم أمام الأخرى مجرد لعب أطفال. عند اللقاء لا تنتظر أرقامًا ولا نتائج» عدم القيام بأي شيء سوى المشي يسمح لنا باكتشاف بهجة الحياة البسيطة والإحساس بما يُشكِّل الطفولة كلها.
يسمح لنا المشي بالتخلص من أعبائنا النفسية، بعيدًا عن هوس فعل الشيء، يتيح لنا أن نلتقي مرة أخرى بهذا الأبد الطفولي. بينما التجارة والاستعراض لا يتركان شيئًا. أمام سوق الإكسسوارات، علينا أن نتذكر أننا نحتاج إلى ساقين فحسب لكي نمشي، والباقي غير ذي جدوى.
بالنسبة للذين لم يختبروا المشي، قد يبدو لهم حالة من العبودية الطوعية، لكنه على العكس من ذلك، فعل تحرر. ينعتق المشَّاء من أسر أن يكون شبكة تنشر الصور وتتبادل المعلومات. في المشي، نكتشف عدم جدوى كل ذلك. يستمتع المتمشي بقطعة من الخبز ورشفة ماء، سعيدًا بالذهاب، سعيدًا بالعودة.
ينحاز المؤلف للمشي في الجوار أكثر من الخروج في رحلة طويلة، لأن الرحلة تخلق إكراهات أخرى، منها وزن الحقيبة ومفاجآت الطقس وطول المراحل، وهو ما يوقعنا مجددًا في أسر الضرورات التي هربنا منها في المدينة.
ويعول غرو على عطايا المشي البسيطة: تعويد النفس على محبة نفسها، ومحبة الأشياء، حيث نتعامل بتسامح مع الطائر الخائف المترقب، ومع الزهرة الهشة التي تنحني، ومع الأوراق الكثيفة التي تتساقط.
لماذا يمشي الكُتَّاب؟
كتب دوستويفسكي روايته «المقامر» بينما يتمشى في غرفته.
وتحكي الفتاة، التي صارت زوجته فيما بعد، قصة هذه التجربة. كان دوستويفسكي قد وقَّع عقدًا مجحفًا ومقامرة مع الناشر. يقضي العقد بتسليم مخطوط روايته «المقامر» في موعد محدد وإن تجاوزة تؤول الحقوق المادية لكل أعماله إلى الناشر. كان الوقت يقترب وبدأ دوستويفسكي يشعر بالتوتر، فنصحه صديق أكاديمي بالاستعانة بإحدى طالباته موهوبة في كتابة الاختزال، وهذا ماحدث.
في «مذكرات زوجة دوستويفسكي» التي ترجمها أنور إبراهيم، تحكي آنا دوستوفيسكايا أنه كان يملي عليها في النهار، وعندما تنصرف من عنده تسهر على ترجمة ما كتبته اختزالًا إلى اللغة العادية وتعيده إليه في اليوم التالي. وعند الانتهاء من إنجاز الرواية هرولا معًا لتسليم المخطوط في اليوم المحدد فوجدا دار النشر مغلقة. كانت حيلة من الناشر المرابي لتفويت الفرصة، ولو كان دوستويفسكي وحيدًا ربما كان قد وقع في شرك الناشر، لكن آنا وجدت الحل: سنسلم المخطوط في قسم الشرطة بمحضر تسليم رسمي، وهذا ما كان!
أي كاتب يعيش هذه التجربة كان لابد أن يحب آنا، وهذا ماحدث. أحبها وطلبها للزواج، فصارت سنده بقية حياته، اختزلت له الكثير من المعضلات، وكانت سببًا في أن يكون واحدًا من أعظم الروائيين في التاريخ.
العجلة كانت دافع دوستويفسكي للإملاء، لكن ذلك كان الوسيلة الوحيدة لعميد الأدب العربي طه حسين. في أحد حواراته بالفرنسية يصف حالة الإملاء والمشي«أنا لا أكتب وإنما أُملي. وقد لاحظ البعض ذلك وخصوصًا فيما يتعلق بمقالاتي. فإذا أمليت في بيتي، مشيت وأنا أُملي. إذا أمليت في الصحيفة فإنني أجلس إلى مكتبي ساكنًا بلا حراك كأنني تمثال» صدر الحوار ضمن كتاب « من الشاطيء الآخر..كتابات طه حسين الفرنسية» جمع وتحقيق وترجمة عبدالرشيد الصادق المحمودي.
بخلاف المشي وقت الكتابة، هناك تاريخ طويل من المشي قبل الكتابة في الفلسفة بالذات، حيث تولد الأفكار وتتكاثر خلال المشي، البداية الموثقة كانت مع أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد، وقد ترك خلفه تلاميذ تسموا بهذه الممارسة «المدرسة المشائية». من أعلام المفكرين والمبدعين والفلاسفة المعاصرين، جان جاك روسو وفردريك نيتشة، وديفيد هنري ثورو.
مثل هؤلاء المتمشين طلبًا للصفاء وتقليب الأفكار كان نجيب محفوظ. عاش يمشي حتى محاولة اغتياله أمام منزله عام ١٩٩٤فصار يتنقل تحت حراسة حتى رحيله عام ٢٠٠٦. عندما بدأ نجمه في الظهور أبدى الشاعر كامل الشناوي رغبته في رؤية هذا الشاب؛ فقيل له إنه يمر عليك بينما تجلس على المقهى، يمكن أن تضبط ساعتك عليه، فترقبه في اليوم الثاني، وعندما رآه يمشي مرتديًا البدلة الرسمية وربطة العنق، قال الشناوي الذي كان نجم حياة السهر: لا يمكن لهذا الموظف أن يكون فنانًا. ولم يكن على حق؛ فالفن يوجد في النظام أكثر مما يوجد في الفوضي.
لم يُقلع نجيب محفوظ عن المشي، لم يقد سيارة في حياته ولم يستقل إلى مكتبه أية وسيلة مواصلات. كان ينتقل ماشيًا من شقته على الشاطئ الغربي للنيل في حي العجوزة متجهًا إلى قلب المدينة شرق النيل. يعبر الفرعين اللذين يحتضنان جزيرة الزمالك عبر كوبريي الجلاء وقصر النيل، ومن ميدان التحرير إلى مكتبه في وزارة الأوقاف على مقربة من الميدان، ثم في مكتبه بهيئة السينما، ثم جريدة الأهرام عندما صار كاتبًا متفرغًا بها بعد التقاعد. وكان يعود بالطريقة نفسها، حتى حبس الحادث الآثم حريته.
يمشي الأدباء أحيانًا للتحايل على الجوع. في كتابه السيري «باريس.. وليمة متنقلة» ترجمة علي القاسمي، يحكي إرنست هيمنغواي عن حياته وزمرة الفنانين والأدباء في باريس العشرينيات، عندما كانوا يقضون الليل في الانتقال من مقهى إلى حانة، لكن المشي الأقسى كان لمشاغلة الجوع. في أيام الشظف، وكانت كثيرة، كان يترك الرغيف الأخير في الغرفة لزوجته، مدعيًّا أنه مدعو إلى وليمة. ويخرج ليتمشى بالساعات في حدائق لوكسمبورغ، ويعود ليُحدثها عن الأصناف التي تناولها على مائدة لم توجد إلا في خياله!
الشاعر بيرم التونسي، كان فعل الشيء نفسه في المدينة نفسها بعد ذلك بعقد من الزمان. كان يشم روائح طعام الجيران خلال جوعه فيطلق ساقيه للمشي «..وعندما سمعت وشيش المقلاة عند جيراني وصعدت رائحة البفتيك يُقلى في الزبدة علمت أنه الظهر، وخيل إليّ أنني لو نزلت إلى المدينة لعثرت على الأصدقاء الشرقيين الذين يطلبون العلم ويعيشون في رفاهية فنزلت ورأيت الشوارع خالية من المارة والمطاعم والقهوات مقفلة على من فيها». يحكي بيرم أنه ظل يتسكع طوال ذلك اليوم بعد جوع ثلاثة أيام، وها هو شعوره «كان منظر الأجبان والخبز في الحوانيت أجمل وأشهى من منظر المجوهرات والفراء والمنسوجات».
المشكلة أن المشي ليس الوسيلة الموفقة في حالة الجوع؛ لأنه بحد ذاته يفاقم الجوع!
امش وتكلم
المشي في حالته الأنقى، يتطلب الوحدة. المشي على انفراد شرط لتحقيق حرية المتسكع. يستطيع أن يسرع وأن يبطئ من خطاه وأن يجلس ليستريح دون انتظار أحد، لكننا يمكن أن نبتغي من المشي منافع أخرى مثل تعميق التواصل مع شريك أو صديق أو جار. التنزه مع شخص وحتى ثلاثة أشخاص لا يبدد مبدأ العزلة بشكل كامل، ويحقق الصحبة في الوقت ذاته. إذا زاد العدد عن ثلاثة تصبح هناك مشكلة في توفيق أحوال العدد الكبير.
مشي الصحفي بصحبة مصدر أفضل طريقة للحصول على المعلومات والأخبار التي يحتاجها. هكذا ترى جانسي دُنْJancee Dunn كاتبة العمود في صحيفة النيويورك تايمز، التي تؤكد أن أفضل حواراتها جرت أثناء السير على الأقدام، تكتب جانسي: «يبدو أن التبادلات تتدفق بسهولة أكبر، كما لو كانت خطواتنا تحدد إيقاع خطابنا». قد يكون هناك سبب أبسط وراء انجذاب الناس للحديث عبر المشي، حيث تُظهر الأبحاث أن الحديث يكون أقل إرهاقًا لشخصين يسيران جنبًا إلى جنب، لأن ذلك يجعل التواصل البصري في حده الأدنى، وهذا يعزز من شعور الحرية لدى المتحدث بينما يشعر أنه تحت رقابة الآخر عند التحدث وجهًا لوجه.
القاضي الذي يمشي!
قص الأثر مهنة ضاربة في القدم في الجزيرة العربية وبين كل تجمعات البدو العرب، وفي حضارات أخرى قديمة مثل أمريكا اللاتينية. يعيش قصاص الأثر متتبعًا خطى الآخرين، يعتمد على الموهبة الشخصية والفراسة بقدر ما يعتمد على التدريب، لهذا هناك عائلات تتوارث المهنة أبًا عن جد. يستطيع قصاص الأثر أن يتبين خطوة المسرع من المتمهل، خطوة الرجل من المرأة، يعرف المقبل من المدبر. ولابد أن تكون أحكامه دقيقة ونزيهة لأنه نوع من قاض؛ قاض يمارس حكمه بالمشي. ولكي تكون أحكامه نزيهة يُشترط في متقصي الأثر أن يكون صادقًا وبلا عداوة مع البشر. العداوة الوحيدة التي لا يستطيع قصاص الأثر أن يتفاداها هي عداوته مع الريح. بوسع الريح أن تمحو الأثر فتُفقد قصاص الأثر فراسته وقدرته على الحكم.
لا يتعلق قص الأثر بكشف الجرائم فحسب؛ فقصة البترول في المملكة كانت عناقًا بين علم الجيولوجيا وقص الأثر، ويبرز في هذا المجال مجهود خميس بن رمثان العجمي، الذي رافق مستكشفي النفط في المملكة بتكليف رسمي عام ١٩٣٤ ثم عُين موظفًا رسميًّا بأرامكو عام ١٩٤٢ وظل بها حتى وفاته عام ١٩٥٩.
كان العجمي يعرف الجزيرة العربية معرفة دقيقة، يعبر الربع الخالي دون هيبة، إذ كان يتمتع بما يجب أن يتوفر في قصاص الأثر المميز من معرفة بمسارات النجوم في السماء وتشعبات الطرق على الأرض وذاكرة جيدة مع حاسة سادسة خارقة للعادة.
السياحة.. سلطة المشي
قوة الانطلاق بعيدًا هي التي تحمل الإنسان على ترك أمان بيته وتضخ دماءً جديدة في شرايين صناعة تخدم نحو ٤٥٠ مليون إنسان سنويًّا. وحسب تقرير مجلس السياحة والسفر العالمي WTTC تساهم السياحة بنسبة ثلاثين بالمئة من إجمالي عائدات قطاع الخدمات في العالم وبنحو أحد عشر بالمئة من إجمالي الناتج العالمي.
الرغبة في اكتشاف المختلف ومضاعفة الحياة القصيرة بتكثيف عيشها هي التي تدفع الناس للسفر، وليس أي شيء آخر. يخرج السائح من البلاد التي تتمتع بنوعية عالية من العيش ليذهب إلى بلاد ربما تكون أقل في المستوى من كل الوجوه، لكن يبقى أنها مختلفة.
المفارقة المثيرة أن ولع اكتشاف المختلف هو تحديدًا ما يمكن أن يقضي على التعدد والاختلاف. ويثير الولع باكتشاف الأماكن البكر قلقًا لدى المهتمين بالثقافة الخاصة للجماعات المحلية، حيث يندفع السياح لاكتشاف مناطق بكر أبعد وأبعد عامًا بعد عام، وتضطر هذه الجماعات إلى تطويع أطعمتها وفنونها من أجل اللاتقاء مع ذوق السائح الذي يرغب في المختلف ويريد تجربته دون أن يكون صادمًا تمامًا لذائقته. وشيئًا فشيئًا يفقد المكان بكارته وينطلق السائح إلى مكان أبعد «يتمتع بالأصالة» التي لن يلبث أن يفقدها؛ فهل يأتي يوم لا يعود فيه مكان يثير شهوة الاكتشاف؟
الأمر يشبه الاستحالة؛ فالمشي قوة أخرى لا يفقد الإنسان ولعه بممارستها، لأنها تتضمن في داخلها ولع الحرية الأصيل في النفس الإنسانية. وأيًا كانت وسائل الانتقال التي يستخدمها السياح لقطع الطريق إلى الموقع السياحي الذي قد يكون في آخر الدنيا؛ فلابد من التمشية والتسكع عند الوصول، والاستمتاع بالتيه الآمن، من خلال المشي العشوائي في مكان مجهول مع العلم بإمكانية العودة إلى الفندق في أية لحظة بعد أن تتعقد اللعبة.
المشي وتنفس هواء المكان وروائحه واستغراق العين في تفاصيله هو الطريقة الوحيدة لملامسة المكان وبغير هذا لا يمكن الادعاء بأننا زرنا هذا المكان أو ذاك.
ميسي.. عبقرية التسكع في الملعب
إذا أردت رؤية المهاجم الأسطوري الأرجنتيني ليونيل ميسي، ابحث عنه بعيدًا عن الكرة، حيث يتجول، يتباطأ، ويبدو غير مهتم. في مقال بجريدة النيويوركر الأمريكية يكتب جودي روزن Jody Rosen عن عبقرية ميسي في ممارسة التسكع بالملعب. عمليًّا يبدو إبقاء العين على ميسي مذهلًا ومملًا. وهنا ينصح الكاتب المشارك في النيويوركر بتعلم فن مشاهدة المبارة، وفن معرفة جذور أية قصة، ويتلخص ذلك الفن في ترك الواجهة والتركيز على ما يحدث في الخلفية، عندها تنفتح اللعبة أمامك.
لكي تشاهد المباراة بشكل جيد، يجب أن تقسم عقلك إلى قسمين، لترى ما يحدث بعيدًا عن الكرة. في حالة ميسي يمكنك أن تلاحظ أنه بعيد عن الكرة لنحو خمسة وثمانين بالمئة من وقت المباراة. وهذا سلوك مرتبط باللاعبين الأنانيين الذين لا يبذلون أي جهد إلا عندما تتاح لهم الفرصة لإحراز الأهداف. يحتفظون بمجهودهم للحظة الاقتناص الخاطفة. لكن الكاتب يعود فيؤكد أن تسكع ميسي ليس من أعراض الكسل أو الشعور بالاستحقاق، لكنه نوع من الخداع. وهذه أعظم خدع ميسي على الإطلاق. بهذه الاستراتيجية أصبح ذلك اللاعب من كبار الهدافين على مر العصور. بلغت أهدافه ما يقرب من الثمانمائة هدف.
هناك مقولة شهيرة للمدرب الإسباني فيسنتي دل بوسكي تلخص اللعب البصري البارع للاعب خط الوسط سيرجيو بوسكيتس، يمكن أن تنطبق على ميسي كذلك. رياضي آخر هو بيب جورارديولا مدرب مانشستر سيتي، درَّب ميسي أربع سنوات، ويصف مشيته في المراحل الأولى من المباراة كشكل من أشكال رسم الخرائط وأخذ قياسات الدفاع وملاحظة أين تقع نقاط الضعف ومتى يمكن استغلالها. يقول جواديولا«بعد خمس أو عشر دقائق، تكون لدى ميسيو خريطة في عينيه وعقله، وبمعنى آخر، المشي بالنسبة لميسي يعادل الرؤية والتفكير».
ويخلص تحليل أجرته صحيفة «أثليتيك» أن ميسي مشي أكثر من أي لاعب في كأس العالم الأخير، بمتوسط أكثر من ثلاثة أميال في المباراة الواحدة. وهو يمشي الآن أكثر من أي وقت مضى، وهذا منطقي، فهو في الخامسة والثلاثين، ومن خلال المشي بدلًا من الركض، يقوم بتخزين طاقته وإطالة مسيرته.
تجارة المشي
المشي في حده الأدنى لا يتطلب إلا تحرير القدمين في حديقة قريبة أو على رصيف شارع أو حتى داخل البيت. هذا التقشف غير مقبول لأباطرة التسويق، هناك شركات لابد أن تعمل وتدر على مساهميها أرباحًا، وتطرح منتجات جيدة ومغرية، تعرضها بتشويق يجعل منها ضرورة لمحبي المشي. يكتب ستيفان بيرسون Stephanie Pearson في صحيفة النيويورك تايمز تحت عنوان «المعدات التي تحتاجها للانطلاق في الرحلة». من بينها زجاجة الماء من الصلب المقاوم للصدأ، فالترطيب ضروري، تبدو خفيفة للغاية وتوفر عزلًا فائقًا يحافظ على درجة حرارة المشروبات، كل هذه المزايا لن تكلف أكثر من أربعين دولارًا.
ولأن الصيف يتحول باضطراد إلى فصل مزاجي (ليس صيف منطقتنا العربية بالطبع) لابد من الاستعداد بسترة مطر، جاكيت الجري المميز بمئتين وتسعة وثلاثين دولارًا، توفر الحماية لكامل المحرك، من الرأس حتى الخصر. وبلا شك يحتاج المتريض إلى أن تكون نقوده وبطاقاته وهاتفه في أمان، ومن أجل هذا خُلق حزام الجري الخفيف ذي الجيوب المغلقة جيدًا بسحَّابات، وأربعة وخمسون دولارًا ليست بالكثير.
هل ننسى السيقان التي يجب أن تكون حرة الحركة في شورت جيد؟ وهل ننسى القدم التي تقوم بالعمل كله؟ القدم هي المخلوق الذي يحتاج إلى الوسادة أثناء عمله وليس أثناء راحته أو نومه. وإذا اقتنينا الحذاء الجيد الذي يوفر وسادات تجعل من المشي متعة، فإن ذلك لا يكتمل إلا بزوج الجوارب المريحة. في الجعبة كذلك قبعات وعصي أنيقة للفاتحين الجسورين ليندفعوا بين الأحراش وعصي طبية لهواة التمشية لكبار السن.
من التعذيب إلى التريض
المشي في المحل، والركض في المحل تعبيران عسكريان انتقلا إلى مجال الرياضة، لأن عملية الإحماء ضرورية للحفاظ على العضلات وتأهيل الجسم كله، بما فيه المضخة «القلب» التي يجب أن تشتغل بالتدريج لتكون قادرة على تقديم ما ينتظرها من جهد.
لهذا النوع من المشي خُلقت الـ Tread Mill لتحقيق فائدة المشي في المنزل بدلًا من تخصيص وقت للمشي في الشارع، كما استهدفت هذه الآلات صالات الرياضة، حيث يكون من الأفضل البدء بالتدريب على المشي ثم الركض السريع قبل الانتقال إلى الأجهزة المخصصة لدعم وتنمية عضلة بذاتها. تحتل آلة المشي بالذات واجهة صالة الرياضة المطلة على الشارع. هذه الإطلالة تمنح المتريض وهم المشي، لكنها لا تعادله بالطبع. من يتمشى في زاوية من بيته أو في صالة رياضية الشارع يرى الشارع من دون أن يصافح أخطاره، لكنه يظل معزولًا عن الطقس الخارجي وتحولاته وعن تفاصيل الطريق وقصصه، وعن الروائح الجميلة لمن يتريض في حديقة واستنشاق اليود للمتريض على كورنيش البحر.
لهذه الآلة تاريخ بالغ الطول، ومثلها مثل الكثير من المنتجات العصرية مرت بتحولات في أهدافها واستخداماتها حتى وصلت إلى محطة الرفاهية الأخيرة في العصر الحديث. حسب مقال بعنوان «تاريخ آلة المشي» منشور على الموقع الأمريكي Lifefitness فأول من اخترع هذه الآلة هم الرومان في القرن الأول الميلادي باستخدام ناقلات الحركة لرفع الأثقال وتعتمد على الجهد البشري، حيث يمشي الإنسان باستمرار داخل اسطوانة فيما يشبه وضع فأر التجارب الذي يدور داخل عجلة في محاولة التقاط طعام معلق لا يستطيع الوصول إليه أبدًا.
هناك شبه بين المشي داخل اسطوانة ووضع سيزيف الذي يرفع صخرة تتدهور عليه باستمرار. حركة سيزيف الأبدية في الأسطورة اليونانية كانت عقابًا من الآلهة. وربما كانت فكرة العقاب هذه المدخل لاختراع المهندسين البريطانيين عام ١٨١٨ حصير الدرج لتعذيب المساجين. كانوا يقضون ست ساعات يوميًا على ألة العذاب هذه التي تلزمهم باستمرار الجري أو السقوط. بعد احتجاجات على الظروف غير الإنسانية للسجناء انخرط فيها أدباء مثل تشارلز ديكنز، توقف هذا النوع من التعذيب. في العصر الحديث حل الموتور محل المساجين في آلات المشي الثابتة وفي السلالم الكهربائية بالمولات التجارية ومحطات المترو وغيرها. مشي نختاره بأنفسنا لتحسين الصحة والتنزه، نمد قدمنا بإرادتنا ونتوقف عندما نريد.
خيانة مبدأ المشي
الشحاذ المثالي مشَّاء. حتى من يعاني إعاقة حقيقية أو مصطنعة عليه أن يمشي ليرى الناس قدر معاناته. والشحاذ الجالس يمشي ليغيِّر مكانه، وإلا يفقد تعاطف الناس الذين يمرون بالمكان ذاته يوميًّا. البعض يخلط تسوله بالنصب. يقف صبي يبكي أمام صحن بيض مفقوش، فيتوقف أصحاب القلوب الرحيمة لتعويض المراهق الذي يبدو خادمًا أطاحت سيارة مسرعة بحمله بينما كان يعبر الطريق!
بعض متسولي القاهرة يلجأون أحيانًا إلى استخدام المركبات، لتغطية رقعة أوسع من تلك التي يتيحها المشي، وطلب مبالغ أكبر من كل متصدق. سائق تاكسي يدور في أحياء المدينة يدَّعي الحاجة إلى ثمن كفن لدفن فقير، سيدة تستأجر عربة نصف نقل تنصب فوقها مكبر صوت مثل مدفع تطلق من خلاله توسلاتها العنيفة؛ تدَّعي أنها بحاجة إلى علاج ابنها المصاب بالسرطان. لكن النوع الأفضل من المتسولين الراكبين يبتعد عن الميلودراما. تأتيه مكالمة أثناء الرحلة، بنجاح ابنة في التعليم أو بميلاد طفل له، يقسم أنه سيسميه باسم الراكب صاحب الوجه السمح وفأل الخير، ويكون على ذلك الراكب أن يترك مبلغًا كهدية للمولود!
سواءً كانوا دراميين أو كوميديين، سرعان ما ينكشف المتسولون الذين يخونون مبدأ المشي؛ فتختفي الظاهرة لفترة طويلة، ولا تعود إلا بابتكار جديد!
سلاح المشاة
الحرب قدر البشر. ومنذ الجريمة الأولى في التاريخ البشري ظل القتال المتلاحم أساس الحروب. مع كل تقدم صناعي بدأت تتشكل ألوية وأسلحة أخرى: سلاح الفرسان، المدرعات، المدفعية، الطيران، وحتى أحدث وسائل القتل عن بعد بطائرات دون طيَّار، وربما في المستقبل آليات برية، دون مقاتلين. لكن كل وسائل الدمار هذه تحقق الموت دون النصر الذي يلزمه وضع القدم على الأرض، أي سلاح المشاة.
الجندي الماشي بشدَّته على ظهره، فيها مؤونته وسلاحه، هو من يحدد نتائج الحروب.
الرفيق الخفيف
أول حقيبة ظهر معروفة حتى الآن تجاوز عمرها الأربعة آلاف وثلاثمئة وخمسين عامًا، وتظهر في تمثال خشبي صغير لأحد خدم النبيل ني ـ عنخ ـ بيبي، تم العثور عليه في مقبرة النبيل بأسيوط التي تعود إلى عام ٢٣٠٠ قبل الميلاد (الأسرة الفرعونية السادسة) ألوان التمثال جيدة وتبدو فيها حقيبة الظهر المزخرفة، والمزودة بشريطين أبيضين للحمل، ورجلين للوقوف عند وضعها على الأرض، وتبدو بحجم حقيبة مدرسية، وربما كانت مخصصة لحمل أدوات كتابة وأقلام وأختام.
على مستوى العلامة، هي شارة تحرر من تقاليد الأناقة الكلاسيكية. حلت محل الحقائب الجلدية المقواة والصناديق الثقيلة لمسافري الماضي. وعلى المستوى المادي هي وسيلة حرية عملية؛ تحرر اليدين من عبء حقيبة وتتركهما لمهام أخرى، لذا فهي مناسبة لمتسلقي المرتفعات وهابطي المنحدرات، والخائضين في المستنقعات وسائري المسافات الطويلة. مناسبة للجنود بقدر ما هي مناسبة للمدنيين النازحين، مناسبة للمتريض في الجوار والمسافر بعيدًا، لسياحة التخييم محدودة الميزانية، وللسياحة الفخمة إذ تتيح للسائح أن يصعد بها إلى الطائرة ليبقي أشياءة الأهم على مقربة منه. لهذا تتوسع صناعة وتجارة هذه الحقيبة ويتزايد الطلب عليها سواءً ازدهرت أحوال العالم أو ساءت.
الفضيلة الكبرى لحقيبة الظهر أنها تتماس مع جسد صاحبها، ورفقتها معه تضامنية؛ فهي ليست عالة عليه طول الوقت، بل تتبادل معه المساعدة. كونها ملتصقة بالظهر يجعلها سياجًا يحمي صاحبها وقت الحركة، تمنع الآخرين من الاحتكاك به في الطوابير، وليس من السهل أن يغافلها لص ويهرب بها كالحقائب الأخرى، وبوسعها أن تصبح وسادة تتيح النوم براحة وأمان في محطات ووسائل السفر وفي الشوارع والحدائق. لا تتوقف الشركات المتنافسة عن تطوير منتجاتها من هذه الحقائب مختلفة الأحجام ومتعددة الجيوب، وبينها حقيبة الجسم من أمام ومن خلف التي توزع الحمل على الصدر والظهر.
ولم تعد رفقة هذه الحقيبة مقتصرة على السفر الطويل والسير في الغابات وتسلق الجبال، بل وجدت لنفسها مكانًا في الحياة اليومية؛ فصارت الوسيلة الأفضل لحمل الكمبيوتر المحمول بأمان بفضل خفتها وبطانتها الواقية من الصدمات.
مؤخرًا حصلت مايكروسوفت على براءة اختراع حقيبة ظهر ذكية، تستخدم تقنية الذكاء الاصطناعي تتصل بالسحابة الإلكترونية ومزودة بجهاز استشعار تستطيع من خلاله تحذير حاملها من مخاطر الطريق، كما تستطيع التحدث مع الأجهزة الذكية الأخرى، وبوسعها تسجيل الصوت وتخزينه، وهكذا يمكن أن تكون بمثابة صندوق أسود للمترجل، يذكرنا بصندوق الطائرة الذي يحفظ معلومات الطائرة المحطمة دون أن يفيد في استعادة الضحايا!
مهنة الغندرة
عروض الأزياء، هي النشاط الذي جعل من المشي حرفة مربحة. ليس أي مشي، بل المشي بغندرة واستعراض. في الدقائق القليلة التي تمشيها العارضة أمام المشاهدين يتحول الجسد إلى علاَّقة ملابس. الاعتزاز بالنفس الذي يجب أن تبديه العارضة لا علاقة له بذاتها، هو محض تمثيل هدفه تسويق الزي بإيهام السيدات من الجمهور بأنهن سيحزن هذه العزة إذا ما ارتدين هذا الفستان. غالبًا تستهدف المشية تسويق العلامة لا الزي الذي يظهر في الاستعراض، والذي يندر أن نعثر على سيدة ترتديه بعد ذلك في شارع أو سهرة بسبب مبالغاته وغرائبيته.
المشية المتغنجة الممتلئة ثقة وتحققًا لبضع دقائق وراءها الكثير من الجهد والالتزام الصارم في التدريبات وقصص طويلة من الاستغلال. هناك عشرات الأفلام الوثائقية والروائية حول قصص النجمات الشهيرات مثل كوكو شانيل، وبدايات العلامات الشهيرة وحتى عن محررات مجلات الموضة المستبدات.
أحدث هذه الأفلام فيلم Phantom Thread من إنتاج ٢٠١٧ ومتاح حاليًّا على شبكة نتفلكس. يتناول الفيلم حياة المصمم رينولدز وودورك وأخته سيريل، لكنه بالقدر نفسه فيلم عن النساء الأشباح اللائي يلتهم حيواتهن رجل يرى المرأة مجرد حشوة فستان. يلتقي بإحداهن فتلمع عيناه، لكن نظراته العميقة ليست نظرات رجل لامرأة، بل نظرات فنان أناني وجد الجدار الذي سيعلق عليه لوحته. وتتبعه أخته في نزواته الفنية فتعامل الفتاة الجديدة باهتمام، فإذا تحول عنها تتولى الأخت طردها لصالح فتاة جديدة، لا تعرف أنها ستُخلي مكانها لأخرى عاجلًا أو آجلًا، وتغادر كسيرة بيت هذا الثنائي المسموم من الذكورة المسيطرة والأنوثة الخاضعة.
المشي الأليم
يقدم السيرك ألعابًا وتسليات مختلفة من عروض الفن الشعبي واللعب مع الحيوانات الخطرة وألعاب السحر، لكن الشخص الذي يتبادر إلى الذهن أولًا عند ذكر كلمة «سيرك» هو اللاعب على الحبال، فهو يمارس المهنة والتمشية الأخطر في العالم.
كل ليلة عرض قد تكون الأخيرة في حياة الرجل الذي ينبغي عليه قطع المسافة على الحبل المشدود. أية لحظة سهو أو تشتت في الانتباه يمكن أن تودي بحياته، وكل نجاة هي بمثابة ميلاد جديد. وتعد قصيدة أحمد عبدالمعطي حجازي «مرثية لاعب سيرك» من أفضل ما كتب، لأنها مفعمة بالتعاطف، يقول في مطلعها:
في العالم المملوءِ أخطاءَ
مطالبٌ وحدكَ ألا تخطِئا
لأن جسمكَ النحيلْ
لو مَرة أسرعَ أو أبطأَ
هوي، وغطي الأرضَ أشلاءَ
استهوى عالم السيرك أفلامًا عربية وعالمية عديدة، يبقى أعظمها فيلم الإيطالي فيدريكو فيلليني «الطريق La Strada» ١٩٥٤. بل يعد واحدًا من أعظم أفلام السينما على الإطلاق، نال الأوسكار. وفي عام ١٩٩٢ وضعته جمعية الأفلام البريطانية في المرتبة الرابعة من بين أفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما.
كتب فيلليني الفيلم بنفسه بمشاركة توليو بينيلي وإنيو فليانو، وقال عنه إنه تمثيل خطير لهويته ورؤيته لم يسبق له مثيل. أصيب أثناء تصويره بانهيار عصبي كما أصيبت بطلته جولييتا ماسينا بانزلاق في الكاحل أثناء العمل.
هو فيلم عن المشي على الأرض وعلى الحبال، عن حياة السيرك الغريبة وعن قبض الريح في النهاية، وهو فيلم مفعم بالرموز يمكن أن نجد فيه جريمة قابيل وهابيل، ويمكن أن نراه أمثولة لرحلة الحياة: الكل باطل!
المشي كهوية
يبلغ تعداد شعوب الغجر نحو عشرة ملايين. تختلف الآراء بشأن تاريخهم، لكن الرواية المهيمنة تؤكد أن أصولهم تعود إلى الهند وإيران ووسط وجنوب آسيا، هاجروا من أراضيهم حوالي القرن الرابع الميلادي أو الخامس عشر، وأخذوا ينتشرون شمالًا وجنوبًا، وينقسمون بشكل أساسي إلى غجر الروما في أوروبا والدومر في الشرق الأوسط، وداخل هذين التصنيفين هناك اختلافات بين من يعيشون في البلقان عمن يعيشون في إسبانيا أو البرازيل، ومن يعيشون في مصر يختلفون عمن يعيشون في لبنان، يتحدثون لغات مختلفة هي مزيج من لغات الموطن الأول ولغات الدول التي هاجروا إليها، ولهم كذلك موسيقى أثرت بموسيقات البلاد الأخرى وتأثرت بها. ولهم علم لكن ليس لديهم أرض يرفعونه عليها. وهكذا يبدو المشي هويتهم الممكنة. ظل الغجر يمشون حتى نهايات القرن العشرين، يقطعون المسافات الطويلة بعربات بسيطة تجرها الخيل.
في عام ١٩٩٢ حددت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي يومًا للغجر في الثامن من أبريل، يتم فيه التذكير بمأساتهم، وهو أقل ثمن تطهري يدفعه العالم لشعب تعرض للإبادة مرات ولسوء الظنون دائمًا. وقد أدركت الحداثة الغجر؛ فصار منهم المتعلمون والمؤهلون جيدًا لكنهم لا يزالون يعانون من التمييز الصامت بسبب الصورة المستقرة عنهم كلصوص وممارسين للسحر ومنحلين أخلاقيًّا.
على خلاف كل ذلك جعل الكولومبي الأشهر ماركيز من موعد وصولهم السنوي إلى قريته الأسطورية «ماكوندو» عيدًا. كانوا يصلون كل عام بأعجوبة جديدة: المرآة، الثلج، المغناطيس، العدسة التي تشعل النار، وتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، وتنقضي أيامهم القليلة فيرحلون ويتركون وراءهم الدهشة والمتع التي يجب أن تنتظرها القرية المعزولة حتى العام التالي.
يبدأ مفتتح «مئة عام من العزلة» بالغجر«بعد سنوات طويلة، وأمام فصيلة الإعدام، سيتذكر الكولونيل أورليانو بونينديا ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه أبوه للتعرف على الجليد» في لحظة لا توصف كهذه يستدعي المقبل على الموت أجمل ذكرى لديه «في شهر آذار من كل عام، كانت أسرة غجر ذوي أسمال، تنصب خيمتها قريبًا من القرية وتدعو بدوي أبواقٍ وطبول صاخبة، إلى التعرف على الاختراعات الجديدة». ميَّز ماركيز الغجري ميلكيادس بحضور شعري لا يُنسى، وقد سلب بألعاب الكيمياء عقل خوسيه أركاديو بونيديا فأصابته لوثة الاكتشافات العلمية بالجنون، دون أن تردعه النكسات عن التجريب!
إرادة المشي..إرادة الحياة
أية قائمة للأفلام العربية الأفضل، لابد أن تتضمن فيلم «الكيت كات» للمخرج داود عبدالسيد. الفيلم غني بكل عناصره الفنية ودلالاته، لكن مصدر ألقه يتركز بشكل خاص في «الشيخ حسني» الأعمى المفعم بالحياة، الذي ترجم إرادة الحياة لديه وتطلعه للخروج من أسر العمى بإرادة المشي، بل وقيادة الدراجة النارية.
يواصل الشيخ حسني المشي، هروبًا من مأزق اغترابه الذي يبدأ عندما يكف عن الحركة. وفي واحد من أجمل المشاهد وأطولها عندما التقى الشيخ حسني «محمود عبدالعزيز» مع الشيخ عبيد «علي حسنين» وسأله عن وجهته وقرر أن يكون دليله. يشكره الشيخ عبيد فيرد «ياراجل كلنا إخوة، وإذا كانشي سليم النظر اللي زيي يساعد عاجز النظر اللي زيك، لا مؤاخذة يعني، يبقى قول على الدنيا السلام».
في أفلام داود عبدالسيد يمشي المبصرون أيضًا، يمشون أكثر أو أقل من الشيخ حسني، لكن مشيهم ضروري ليبرز المكان، وهو جزء مهم من تجربة صانع الأفلام الماهر. بقدر ما يمشي الأبطال تمشي الكاميرا وترى بحب كل تفصيلة في الشارع، نرى ذلك واضحًا في «البحث عن سيد مرزوق» و«مواطن ومخبر وحرامي» و«رسائل البحر» تمامًا كما بدا في «الكيت كات».
من فضائل كاميرا داود عبدالسيد عشقها للعمارة الجميلة، وبينما يتحرك الأبطال في الشارع تتسلق الكاميرا الجدران، تبرز جمال الشرفات والنوافذ وتدخل من بين فواصل الحديد على الأسوار لترى الأزهار في الفيلات القديمة وعمارات الطبقة الوسطى التي تحظى بحداذق صغيرة في واجهاتها. ويومًا ما ستكون أفلام داود عبدالسيد أفضل توثيق لمدن مصر وعمارتها العريقة.