استنباتُ صوتٍ مستعار قراءة في رواية ثوب أزرق لهيفا نبي
نجوى العتيبي
ثمة شعرة دقيقة يمكنها قلب أي عمل أدبي رأسا على عقب. يمشي الكاتب على حدّها هونًا، وإن ظهرت فيما يقدّمه؛ فقد تُفسِدُ ما اجتهدَ في كتابته باعتبارها عنصرا دخيلا.
ولعلّ حوارية باختين -من جملة ما أفادته- قد اختصرتْ وضعَ الكاتب أصالةً وتقليدا لغيره؛ فالتأثُّر بالأصوات الأخرى أمر حتميّ، لكنّ ظهورها في العمل قد يمسّ أصالته إلى قضايا أخرى، وقد طالعتني هذه الفكرة في قراءة رواية الكاتبة هيفا نبي (ثوب أزرق بمقاس واحد).
في عام 1892م نشرت شارلوت بيركنز جيلمان قصتها بعنوان: «ورق الحائط الأصفر» بناء على تجربة شخصية خاضتها، فمن جهة كان زواجها مهدّدًا، وعانت من اكتئاب ما بعد الولادة، وما فاقمَ الأمرَ علاقتُها المتوترة بطبيبها النفسي، عبرت عنها بالجحيم النفسي الذي حاولت تجاوزه برفض العلاج، وبمعاودة الكتابة التي مُنعت منها؛ وفق نظرة سائدة آنذاك عبر اتهام الإبداع والثقافة برفع خطورة المرض؛ الأمر الذي فضحتْهُ من خلال كتابة هذه القصة، وما تلاها من نتائج كانت لصالح النسوية(1).
تتحدث القصة عن هذه المعاناة، ونُصح الطبيب للمرأة بالراحة. يفرض زوجها جدولا صارما من العناية الصحية عبر حصص أكل منتظمة يسأل عنها يوميا، مع إعفائها من الأعمال المنزلية، ومنعها من الخروج.
تكره الزوجة ورق الحائط الأصفر في الغرفة التي تقيم فيها، تتخيّل مع الأيام تحرّكات غريبة فيه، حتى ترى امرأة تحاول الفرار منه، يزداد الأمر سوءا فتستمتع بمراقبته، وتتصور أنّ أخت زوجها تنافسها على اكتشاف أسراره. ثم تراودها أفكار بحرق القصر لتتخلص من رائحة ورق الحائط الأصفر، ويتطور الأمر مزيدا لتتوهَّمَ خطًّا يتعرج عليه حتى يدور في أنحاء الغرفة، وأنّ المرأة المخترَعَة في الحائط تهزّ النقش الموجود عليه فيهتز الخط، تعتقد أنها امرأة من جملة نساء محبوسات خلفه لم يستطعن المقاومة مثلها. ثم ترى تلك المرأةَ تزحف في الخارج طيلة الوقت لكنها لم تحرر نفسها من الحائط… أفكار كثيرة تنخرط فيها الكاتبة بما يشي بالحالة العقلية لشخصيتها أثناء هذا الحبس، حتى تقع في فعل مجنون وهي تزحف في الغرفة لتحرير المرأة، ثم ينهار زوجها من المشهد ولا تستوعب الأمر وتظل تزحف.
في رواية ثوب أزرق نسْجٌ على منوال القصة، فكلا الشخصيتين داهمهما المرض بعد الانتقال إلى مكان جديد، وفُرض عليهما جدول صارم للرعاية، مُنعتا من الخروج، وحظيتا بالعناية الصحية والمنزلية. كما أنهما تزاولان الكتابة، وتلازمان النافذة بالمراقبة، تعترضان على الزوج مع الاعتراف بالاحتواء والحب، وتعانيان من عدم فهمهما جيدا.
حين رفض الزوج في القصة تغيير الحائط؛ فإن الزوج أيضا في الرواية رفضَ تغييرَ شكل النافذة وإضافة القضبان عليها. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الكاتبة حوّلت المعاناة من الحائط الأصفر إلى النافذة.
حين تخيّلتْ القصةُ ظهورَ امرأةٍ من الحائط تهزّ بيديها القضبان المتوهمة لتحرر نفسها؛ فإنّ الرواية تخيلت محاولة مدّ سائق الشاحنة يدَه إلى النافذة نحو المرأة المتعَبَة.
تنهار المرأة في العملين، لكنها في القصة تظلّ متمسّكة بروايتها إذ تواصل جنون الزحف في الغرفة حتى تعبر على جسد الزوج الذي فقد وعيه، وقمة الجنون حين تراه وتتعجب منه بقولها:
«- ماذا دهاكَ يا جون! لقد سددتَ عليّ الطريق! …
عبرتُ فوق وظللتُ أزحف». النهاية.
أما في «ثوب أزرق» فتفقد الشخصية روايتها لأنها تقرر سريعا العودة إلى رشدها واعتبار فشل الانتحار فرصة ثانيةً تخجل منها، دون أن يفهم القارئ ما الذي تغيّر في العالم الخارجي لكي تصالحه الشخصية هكذا، فيرتبك مفهوم المرض في عينه.
فضلا عن ذلك؛ فإن قصة ورق الحائط الأصفر مرتبطة بشكل وثيق باللون الأصفر، أما عنوان الرواية على العكس من ذلك، مما يجعلني أتساءل عن رغبة الكاتبة في تقليد القصة وإقحامها للّون بأي طريقة في العنوان.
إنّ أكثر أجزاء الرواية أصالة تركتها الكاتبة تنفلت سريعا لتركيزها على تقليد نموذج جاهز؛ فالثقافة الكردية مرّت عرضا، ونتائج الثورة السورية وما آلت إليه من تهجير ولجوء وتشرّد كذلك.
لقد كانت رواية (مولودة عام 1982م) لتشو نام جو مثلا؛ تركز على أوضاع المرأة الكورية والتسلط الثقافي والاجتماعي عليها من خلال هذا المرض، في محاولة لفت النظر إلى تسبُّب المنظومة بإنهاك النساء، أما في هذه الرواية فالحشو هائل على حساب العمل وأحداثه، يتملّق النسوية دون إحراز نتائج، ودون أن يستدعيها العمل، حتى صارت نبرة اصطناعها عالية مُدَّعاة بأكثر من طريقة لا يتقاطع معها النص، من نحو الاستلهام مباشــرة من أديبات نسويـات مثل: إيميلي ديكنسون، وفرجينيا وولف، وعبر مقاطع لا تحتاج إليها الرواية من خلال الحديث عن السلطة الذكورية وعن الاحتفاء باللذة الجسدية في مقطع يتيم لا يؤدي إلى شيء، مما يجعل من هذه التفاصيل متمّمات شكليّة يُرجى منها احتساب العمل ضمن الأدب النسوي.
ما ينبغي التنويه عليه أنّ الكاتبة قدمت قـراءة للقصة عبر حسابها بالفيسبوك صدّرتها بعنوان: «قصة قصيرة بحجم ملحمة». فهل الرواية هي الملحمة التي حاولت تأليفها احتفاء بإعجابها بالقصة؟
أتذكُّرُ في آخر المطاف قولا للكاتب عبدالسلام بنعبد العالي: «الكتابة ليست في النهاية إلا استنساخات تنسى أنها كذلك» ولكنني لم أنسَ صوت شارلوت وقصتها أثناء قراءة رواية ثوب أزرق.
يدور في بالي أنّ النص -فضلا عما سبق؛ حُذفت منه خصوصيته لاحتمال تقاطعها مع التجربة الشخصية المتحمَلة، وهذا يفسر كثرة الخواطر على حساب الفن الروائي، والإفراط في التقسيمات التي تجاوزت سبعين عنوانا، بعضها جاء في سطرين أو ثلاثة على امتداد 197 صفحة، فحتى الشكل المختار عبر اليوميات لم يتم توظيفه لكتابة اعترافات تغذي النص مثلا.
إنَّ مُضيّ عام كامل على إصدار هذا العمل دون نقاش جادّ؛ يجعل السؤال عن أصالة الأعمال وتجاربها الخاصة حاضرا، فكم من الأعمال قدّمت تجربتَهَا الجادة بعيدا عن تقفّي صوت واحد بالتقليد أو الإغارة على أفكاره؟
لعلّ الانطباعات السريعة عن الأعمال تخفي أصوات الآخرين في النص بعض الوقت. لكنّ قراءةً واحدة جادة يمكنها تغيير الكثير ليستحقّ الأدبُ أكثر من ترديد مقولة الحوارية، فهناك أدب أصيل دائما إن كرَّسَ الكاتبُ نفسه لكتابة التجربة بصدق والتزام أكبر.
1- يمكن العودة إلى مقال بعنوان (الطب النفسي والأدب النسوي.. قراءة في قصة قصيرة من القرن التاسع عشر) بقلم هيلاري مارلاند، ترجمة رسم سعيد، نُشر في موقع (كتب مملة)، 2020/9/13م.
تعليقان
تبدو قراءتك للرواية قراءة عابرة، انا قرأت الروايتين، لكن ما تقولينه ليس دقيقا، رواية هيفا نبي رواية عميقة و أصيلة، اعتقد أنك لم تستطيعي سبر أغوارها، آمل في قادم الأيام و السنين أن تقرأي بعض كتب النقد و من ثم يحق لك كتابة و تقييم الآخر
مقال هزيل وفيه أذى . لا أعرف كيف مرّرت المجلة السعودية المنطلقة حديثاً هذه الانطلاقة المشجعة هذا المقال الذي لا يحتوي لا نقداً ولا تحليلاً ولا دراسة مقارنة للعملين.
لا يجب أن نتعامل مع الأدب بهذا الأسلوب، هذه سخرية من الأدب ومن النقد الأدبي على حد سواء.
من الطبيعي ان لا يعجبنا عمل ما، لكن ليس من الطبيعي ان نفرز ذلك في مقال نسميه نقديا وننشره في مجلة لها تاريخ كالنص الجديد.